لمدرسة النقدية
بحث لمدرسة النقديةpdf
خطة البحث:
مقدمة:
المبحث الاول:نشأة مدرسةفرانكفورت
المطلب الاول:ماهية مدرسة فرانكفرت
المبحث الثاني :الأسس الجوهرية لفكر مدرسة فرانكفورت
المطلب الاول:الأسس الفلسفية
المطلب الثاني: الأسس السوسيولوجية.
المبحث الثالث: مشروع النظرية النقدية النقدية ومنطلقاتها الفكرية
المطلب الاول: نقد النزعة الوضعية والتجريبية الحديثة.
المطلب الثاني :نقد المجتمع الاستهلاكي.
المطلب الثالث:نقدالايديولوجيا
خاتمة:
المقدمة
إن مساءلة الفكر النقدي انطلاقا من استحضار مختلف تطوراته النظرية في فضاء التفكير الفلسفي يكشف عن وجود تلوينات مختلفة لمناهج النقد الفلسفي من خلال تبلوره في تيارات واتجاهات فلسفية مختلفة بل ومتضاربة أحيانا، كما هو الشأن بالنسبة لمدرسة فرانكفورت النقدية التي تشكل انعطافة مهمة في مسيرة الفكر الأوروبي الحديث، بحيث كان لهذه المدرسة الآثار الكبير والفاعل في صياغة نظرية نقدية تتعامل مع: السوسيولوجيا، الفلسفة ، والسياسة والثقافة كأبعاد متداخلة ومتشابكة في عملية تكون ودراسة النظريات الاجتماعية والآفاق المعرفية والحضارية التي رافقت التطورات والتحولات التي شهدها المجتمع الأوروبي في ميادين الاقتصاد والسياسة ، وبروز النظام الرأسمالي كعامل حاسم ترك آثاره على الأدبيات الفلسفية والاجتماعية ـ
فأين تأسست مدرسة فرانكفورت؟ ومتى كان هذا التأسيس؟ وما هي الخلفية الفكرية لهذه المدرسة وما هي أسسها الجوهرية؟
المبحث الاول:نشأة المدرسة فرانكفورت
المطلب الاول :ماهية مدرسة فرانكفورت (1)
لقد حصلت مدرسة فرانكفورت على طابعها المؤسسي عبر تأسيس معهد الأبحاث الاجتماعية في عشرينات القرن الماضي، وقد وضعت الحلقة الدراسية الأولى للعمل الماركسي لبنات التفكير في أسباب أزمة الفكر الماركسي وإخفاق ثورة 1918 في ألمانيا، وقد جمعت الحلقة الدراسية ثلة من الباحثين من أبرزهم رجل الأعمال فليكس فايل والاقتصادي فريدريك بلوك والمفكر االماركسي جورج لوكاتش... الا أن المشروع لم يتكلل بالنجاح، غير أنه يعتبر بمثابة الانطلاقة التي دفعت بعض المشاركين في الحلقات في التفكير جديا في تأسيس معهد الأبحاث الاجتماعية.
وقد تأسس معهد الأبحاث الاجتماعية رسميا في 3 فبراير 1923 في جامعة غوته بمدينة فرانكفورت بألمانيا ، وقد توخا المعهد في البداية احتضان الأبحاث النظرية الاشتراكية التي أقفلت الجامعة الألمانية الأبواب في وجهها، وكان المعهد يظم جملة من المثقفين اللذين لم يتبنوا أطروحات الاشتراكية، ورفضوا الانضمام الى الحزب الشيوعي الألماني بعد فشل ثورة 1918 يحدوهم العزم لبلورة فحص عميق لأسس النظرية النقدية .
كان المعهد في البداية يتولى الإشراف عليه أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة فيينا كارل غرونبر، وفي العام 1931 تم تنصيب هوركهيمر رئيسا للمعهد وتعيين تيودور أدورنو أستاذا مساعدا له، وبتعاون هوركهايمر وأدورنو أخذ اسم النظرية النقدية في اللمعان بحيث لم يعد الاهتمام منصب فقط على نقد الاقتصاد السياسي كأداة تحليل للمجتمع الرأسمالي كما كانت ترى الماركسية. اعتمدت مقاربة تركيبية تقوم على ربط الفلسفة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية .
(2)وبعد سيطرة النازية في ألمانيا وصعود هتلر إلى الحكم سنة 1933 اضطر هوركهايمر وزملاءه للهرب إلى سويسرا وفرنسا وبريطانيا ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوقت الذي صدرت فيه الأوامر بإغلاق المعهد ومصادرة مكتبته القيمة أسس هوركهايمر وزملاءه فروعا أخرى للمعهد في كل من باريس ولندن ثم في جامعة كولومبيا، غير أن الوضع السياسي في أمريكا جعلهم يتجنبون استخدام المفاهيم الراديكالية بسبب فقدانهم الثقة في الطبقة العاملة في أوروبا وأمريكا ، وكذلك بالماركسيين اللذين أصبحوا تقليديين. وفي المنفى تطورت النظرية النقدية إلى فلسفة التاريخ والمجتمع مثل ما كان ذلك في عصر التنوير ، وفي هذه الفترة قدم الرواد الأوائل أهم أعمالهم حيث أصدر هوركهايمر عدد من الكتب المهمة من أهمها " السلطة والعائلة" ، و" كسوف العقل".
وفي سنة 1950 بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية عاد بعض الرواد الى فرانكفورت وعلى رأسهم هوركهايمر من أجل إكمال العمل الذي بدؤوه قبل الهروب من ألمانيا لتنطلق بعد العودة من المنفى المرحلة الثانية في تاريخ المدرسة والتي يعتبر أهم ممثليها يورغن هابرماس'1929....' والذي اعتبر الوريث الشرعي لتركة مدرسة فرانكفورت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)-.محمد نور الدين أفاية : الحداثة والتواصل في الفلسفة المعاصرة، نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق ، الطبعة الثانية المغرب1998.ص44
(2)- توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت ، ترجمة سعد هجرس ،دار أويا طرابلس،ليبيا ،1998.ص13
المبحث الثاني :الأسس الجوهرية لفكر مدرسة فرانكفورت:(3)
لا يمكن فهم النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت إلا بالرجوع إلى الأسس الجوهرية لفكر هذه المدرسة، لكن ما يميز هذه المدرسة عن باقي المدارس الفلسفية والسوسيولوجية الأخرى هو عدم اقتصارها على المرجعية الفلسفية أو السوسيولوجية فقط، فقد تشربت هذه المدرسة من ينابيع جميع العلوم الانسانية ، من الفلسفة " كانط و هيغل..." ومن علم الاجتماع " كارل ماركس وماكس فيبر وهربرت ميد وأغوست كونت..." وعلم النفس " فرويد ، جان بياجي..." والعلوم اللغوية " أوستين ..." لكن نظرا لشساعة الموضوع لن نتكلم الا عن الأسس الفلسفية والسوسيولوجية.
المطلب الاول: الأسس الفلسفية.
يبدو أن مدرسة فرانكفورت أو ما يعرف بالنظرية النقدية اتخذت من النقد أساسا لها، والنقد هو تقليد ألماني قديم وقد تبدى جليا خاصة مع كانط ومن بعده هيغل وأتباع هيغل من بعده"الهيغليين الشباب" ليصل هذا التقليد إلى مدرسة فرانكفورت ، بحيث تكونت النظرية النقدية انطلاقا من نقد مفكرين ونصوص فلسفية أخرى لأنه بدون استلهام للماضي ومحاورة الحاضر ليمكن اتخاذ أية مسافة نقدية كيفما كانت دلالتها ومقاصدها .
ويرجع العديد من المهتمين بالنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أن النقد الكانطي يعتبر مرجعا أساسيا اعتمد عليه أصحاب النظرية النقدية وخاصة في كتبه الرئيسية الثلاثة : نقد العقل الخالص(1781) ونقد العقل العملي(1788)وكتاب نقد ملكة الحكم(1790).
وقد حاول بعض مفكري النظرية النقدية نحت منحى توفيقيا بين الفلسفة الكانطية والمادية الجدلية(لاسيما في بعديهما المتعالي كما يقول ماركيوز) . وانطلاقا من القيمة التي أسستها الكانطية في التاريخ الحديث للفلسفة الكلاسيكية الألمانية يسعى فلاسفة فرانكفورت الى تقديم النظرية التي يجتهدون في بنائها وتوضيحها كوريث شرعي للعقلانية الكلاسيكية من كانط .
واذا كان هناك اختلاف بين الباحثين حول ما اذا كانت فلسفة تمثل احدى الخلفيات الفلسفية لمدرسة فرانكفورت، اذ هناك اجماع على أن فلسفة هيغل تمثل مرجعية أساسية لفكر مدرسة فرانكفورت وقد تبين ذلك بوضوح في كتابات هربرت ماركيوز وخاصة في كتابه "العقل والثورة".
فإذا كان كانط قد أقام فلسفته النقدية لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة عن المعرفة الميتافزيقية التي تؤدي الى وقوع العقل في التناقض، فان هيغل قد جعل من التناقض جوهرا لفلسفته ومنهجه الجدلي .
وقد قام هيغل من خلال منطقه الجدلي، بإدخال العقل في الوعي وفي الطبيعة ثم تجلى في التاريخ، و أصبح هو جوهر التاريخ ومحركه، بل أصبحث العملية المعرفية نفسها تنمو في مراحل متعددة ، وقد قام هيغل أيضا بمهاجمة المعرفة العقلية الخالصة التي فصلت الفكر عن الوجود، كما هاجم هيغل الفلسفة التجريبية الخالصة التي أغفلت السمات العقلية للواقع .
ويعتبر هيغل حسب منظري مدرسة فرانكفورت رائد الفلسفة الاجتماعية لأنه خلص الفلسفة من القيود الشخصية المفردة ، حين ألقى بالوعي في تجربة جماعية وكونية يخوضها الروح منذ اللحظة الأولى التي انفصل فيها عن الطبيعة، وتظهر هذه التجربة في الدين والفن والسياسة وتجد في الفلسفة تعبيراتها المفهومية.
وقد انقسمت المدرسة الهيغيلية بعد وفاته الى جناح يميني وجناح يساري ، وقد تمسك الجناح اليميني بالاتجاه المحافظ في مذهب هيغل ووسعه، أما الجناح اليساري فقد طور الاتجاهات النقدية عند هيغل بادئا هذا التطوير بتفسير تاريخي للدين ، وقد دخلت هذه الجماعة الأخيرة في نزاع اجتماعي وسياسي متزايد الحدة مع عهد عودة الملكية، وانتهى أمرها اما الى الاشتراكية والفوضوية الكاملة واما الى الليبيراليىة التي تحمل طابع البرجوازية المصغرة .
وقد تعارضت معايير هيغل النقدية وجدبه بوجه خاص، مع الواقع الاجتماعي السائد، ولهذا السبب كان من الممكن أن يسمي مذهبه بحق" فلسفة سلبية" وهو الاسم الذي أطلقه خصومه المعاصرون لها، وقد ظهرت في العقد التالي لموت هيغل فلسفة ايجابية أو وضعية ترمي الى ازالة تأثير اتجاهاته الهدامة وأخذت هذه الفلسفة على عاتقها أن تخضع العقل الى سلطة الواقع، وأن الصراع الذي حدث بعد ذلك بين الفلسفة السلبية والايجابية أو الوضعية، ليقدم مفاتيح متعددة تساعد على فهم نشأة النظرية الاجتماعية الحديثة في أروبا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3)محمد الخوني، التنوير والنقد، منزلة كانط في فرانكفورت ، دار الحوار للنشر والتوزيع الطبعة الأولى، سوريا 2006.ص122
المطلب الثاني: الأسس السوسيولوجية (4)
أ- التأثير الماركسي: من المعروف أن منظري مدرسة فرانكفورت تأثروا بالماركسية حتى اعتبر البعض أن هذه المدرسة ليست إلا فرعا من فروع الماركسية ، لكن أصحاب النظرية النقدية وان تبنوا الماركسية كمبدأ أو كمنهج فإنهم لم يلتزموا بها كليا ولم يتشبثوا بمقولاتها المتمركزة حول نقد النظام الاقتصادي والرأسمالي وحول الايدولوجيا بصفة عامة، بل تركزت ماركسيتهم على نقد الاغتراب والأسباب الكامنة وراءه في المجتمعات الصناعية القائمة على الكليانية والمعقولية التقنية والبيروقراطية التي ادعت التقدمية وتباهت بالهيمنة على الطبيعة وعلى الإنسان في العالم الشيوعي والرأسمالي، ولم يكن المصدر الأساسي لهذا النقد هو النظرية النقدية برمتها ولا الارتباط بالطبقة العاملة بقدر ما كان التأثر بماركس الشاب خاصة في كتاباته الأولى وتحديدا في مخطوطات 1844، فقد وجدوا في أرائه تأكيدا لاغتراب الكانسان وعرفوا أن نقدهم لها لا ينبغي أن يقتصر على الإصلاح الاقتصادي والسياسي وعلى " وثنيتها السلعية"-حسب المفكر الماركسي جورج لوكاتش- وعقلانيتها المزعومة التي تقف حجر عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة.
وهذا ما حاول القيام به كل من أدورنو وهوركهايمر في كتابهما المشترك " جدل العقل"، وقد انطلق هابرماس(أحد رواد الجيل الثاني) من فكرة أن الماركسية فكر يحتوي على قدرة نقدية هائلة لكل ما هو عام وشامل، وقد طرح نفس في نفس الوقت مشروع إعادة " توجيه الماركسية" ، واذا كان ماركس قد قلب الجدل الهيغيلي على رأسه وجعله يسير على قدميه كما يقال فان هابرماس هو أيضا قد قلب الماركسية من على رأسها لتسير على قدميها وذلك استنادا على عقلانية ماكس فيبر.لكن رغم المكانة التي تحضى بها الماركسية في مدرسة فرانكفورت فانها لم تسلم من النقد خاصة في شقها التقليدي والستاليني الدوغمائي اذ اعتبر رواد المدرسة أن الماركسية لم تعد تواكب التغيرات التي تحدث في العالم الرأسمالي ، وأن الرهان على الطبقة العاملة في القيام بالثورات أصبح شبه مستحيل في مجتمع استطاع احتواء هذه الشريحة الواسعة ، ليراهنوا على فئات أخرى من قبيل الطلاب والأقليات العرقية كطليعة استراتيجية للتغيير، وهذا ما تبين جليا ف ي أحداث 1968في فرنسا وفي أمريكا حين رفض الطلاب الأمريكيين الحرب على الفيتنام.
ب- التأثير الفيبيري(5) تعتبر كتابات ماكس فيبر حول العقلانية من إحدى المرجعيات الأساسية لمدرسة فرانكفورت، و قد ظهرت بوضوح في كتابات ماركيوز وخاصة كتابه الانسان ذو البعد الواحد ، وخاصة في حديثه عن منطق الهيمنة وهو المفهوم الأساسي الذي أضحى مبدأ جوهريا مميزا لمدرسة فرانكفورت في أوج ازدهارها ويعني أن السيطرة على الطبيعة من خلال العلم والتكنولوجيا تنشئ عنه بالضرورة شكلا جديدا من التسلط على الإنسان
ويمكن أن ندرج وجهين رئيسيين للتشابه بين مدرسة فرا نكفورت وكتابات ماكس فيبر:
-الوجه الأول: هو أن العقلانية التقنية أو الترشيد قد تم تصورهما كقوى مجردة تشكل مجتمعا يقع خارج نطاق التحكم البشري، حيث أن المنطق الداخلي للنظام الذي خلقه العلم والادارة العقلانية يقوم بهذا العمل على نحو ما من وراء ظهر الأفراد أو الجماعات الاجتماعية المعينة وأنه يقوم بهذا أيا العمل أيا كان الشكل الظاهري للمجتمع، أي بصرف انظر عما اذا كان المجتمع رأسماليا أو اشتراكيا شموليا أو ديمقراطيا، وبهذا المعنى يتم إحلال مفهوم " المجتمع الصناعي" محل " المجتمع الرأسمالي" .
وقد برهن ماركيوز على مقولات فيبر بقوله: (...ليس تطبيق التكنولوجيا فحسب، بل التكنولوجيا نفسها ، هي التي تمثل تسلطا على الطبيعة والإنسان بطريقة منهجية علمية ومحسوبة وماكرة ، وأن الأهداف والمصالح المحددة لهذا التسلط لا يتم دسها على التكنولوجيا فيما بعد ومن الخارج، وإنما هذا يدخل في تصميم بناء الجهاز التقني) .
- أما الوجه الثاني : يمكن العثور على وجه التشابه في النزعة التشاؤمية الكئيبة التي تنشأ من تفسيرهما للمجتمع الصناعي الحديث، فإذا كان فيبر ليبرالي يائس- على حد تعبير توم بوتومور- فان مفكري مدرسة فرانكفورت وخاصة( هربرت ماركيوز ) يمكن وصفهم بأنهم " رديكاليون يائسون "- حسب بوتومور- اذ ينظر ماكس فيبر ومعه رواد مدرسة فرانكفورت الى أن التوسع الأكثر أو الأقل قسوة للترشيد والعقلنة يعني أن المجتمع سيصبح عرضة للتسلط من جانب علاقات اجتماعية ذرائعية محضة، وسيصبح " قفصا حديديا" ودولة " للتحجر الآلي" تختنق فيه الإبداعية الفردية والقيم الشخصية .
إن تشاؤمية ماركيوز وهوركهايمر فيما يخص مصير الفرد هي من نفس تشاؤمية فيبر، فالعقلانية التقنية، أي العقل الذرائعي هو الذي يسود الحياة الاجتماعية وان بقيت قوى قليلة تعارضها، وهذا ما يخلص إليه ماركيوز في كتابه : "الإنسان ذو البعد الواحد".
وإذا كان الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت قد اعتمدوا على كتابات ماكس فيبر وكارل ماكس....فان هابرماس كأحد رواد الجيل الثاني من المدرسة لم يكتفي بكتابات ماكس وماركس بل انفتح على كتابات سوسيولوجيين اخرين من قبيل هربرت ميد وايمل دوركهايم ، حيث يؤكد هابرماس أن مفهوم التواصل بوصفه نظرية علمية قد بدأ مع السوسيولوجي هربرت ميد في نظريته المرتبطة بالتفاعل الرمزي، اذ دافع –هابرماس- عن فكرة أن التواصل هو المبدأ المؤسس للمجتمع، أما فيما يخص دوركايم فيتجلى فكره بوضوح في كتابات هابرماس حول كيفية دمج الفرد في مجتمع طغت فيه القيم الفردانية، ويظهر ذلك في حديث هابرماس عن الفضاء العمومي وكيفية تحقيق الديمقراطية، ففي كتابه "نظرية الفعل التواصلي" يخصص فصلا مطولا للحديث عن دوركايم وميد، يقول هابرماس(...ان تحول البراديغم الذي انتقل من الفعل الغائي الى الفعل التواصلي بدأ مع ميد ودوركايم، فماكس فيبر واميل دوركايم وهربرت ميد ينتمون الى جيل المؤسسين للسوسيولوجيا الحديثة) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) محمد الأشهب : الفلسفة والسياسة عند هابرماس، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، المغرب 2006.ص24
(5)- علاء طاهر ، مدرسة فرنكفورت من هوركهايمر الى هابرماس ، منشورات الانماء القومي،بيروت الطبعة الأولى بدون تاريخ.ص67
المبحث الثالث :مشروع النظرية النقدية ومنطلقاتها الفكرية:(6)
المطلب الاول :نقد النزعة الوضعية الحديث والتجريبية.
وجه الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت انتقاداته الحادة إلى النزعة العلمية المفرطة وأنساقها التي تحولت إلى إيديولوجيات تستند إلى يقين معرفي ومعتقدات ايمانية فكلها في نظرهم قد غدت أنظمة معرفية مغلقة تعتمد أشكالا تنظيمية جد مقننة للحياة الاجتماعية، من خلال إسقاط اليات فهم الظواهر الطبيعية على الظواهر الاجتماعية بمعنى أنها أصبحت ايديولوجيات شمولية تنظم علاقات الانسان بالانسان والانسان بالأشياء، مما حدا برواد مدرسة فرانكفورت إلى رصد تحول العقلانية كايديولوجية ، ومحاولة الكشف عن مكامن التسلط فيها ومحاربة نزعتها الوثوقية .
واعتمادا على ارث النظرية النقدية واستكمالا لمشروعها واستنادا الى التطورات الاقتصادية التي عرفها المجتمع الغربي الحديث، وجه هابرماس انتقاداته أيضا لكل من النزعتين " الوضعية والتجريبية " انطلاقا من كون المهمة الفلسفية تقتضي ذلك من أجل كشف الوهم الإيديولوجي الكامن من وراء النزعتين معا، لأنهما يمثلان وجهين لعملة واحدة .
إن المعرفة العلمية التي سخرت لفهم الطبيعة والتحكم فيها تم استخدامها أيضا للتحكم في الإنسان، بمعنى أن منطق النظم الذي تصوره الإنسان للسيطرة على الطبيعة، ثم نقله بالكامل للتحكم في الأفراد والجماعة، وهذا ما يبادر إلى أذهاننا عند فحص مختلف التنظيمات القانونية والإدارية، وأشكال الترشيد والضبط والتقنين والعقلنة لمختلف جوانب الحياة في العالم المعاصر، فكل هذه الاليات تعمل وفق نظمها ومنطقها الداخلي وتكرارها إنتاج مجتمع طبقا لمقاسات ومواصفات معينة، لكن مدرسة فرانكفورت ترفض أي تناظر أو تماثل تجريبي قد يعقد بين الظواهر الطبيعة والاجتماعية، يمكن صياغته في قواعد وقوانين محددة، على اعتبار أن السلوك الإنساني لا يمت بأي صلة للقواعد التي تتحكم في ظواهر الطبيعة.
الأمر الذي جعل رواد مدرسة فرانكفورت يقفون في مواجهة معارضة للنزعة الوضعية التجريبية والتقنو علموية* الجامحة في حدود عواقبهما، ولعل ما يميز هذا النقد العنيف هو محاولة الكشف عن العقلانية بوصفها " اليات للتسلط والهيمنة"، التي طورت العقل التقني تحت ستار العلم ومن أجل العلم وبدعوى الحياد والموضوعية العلمية .
ويمكن أن نجمل النقد العنيف الذي قام به رواد فرانكفورت في العناصر التالية:
- لا تحفل النزعة الوضعية الحديثة الا بالتجربة الخالصة والمحضة، ووحده التجريب الذي تقوم به العلوم الحقة يستحق لقب " المعرفة " وما عداه يلقى به في قمامة التاريخ.
- تنظر النزعة الوضعية للحاضر كحدث تم انجازه، وتتنصل كليا من تغييره.
- تعلن السوسيولوجيا التجريبية( أن كل ما يمكن ملاحظته لا يعدوا أن يكون في نظرها أشياء، ومحض أشياء) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6). - حسن مصدق : يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب ، الطبعة الأولى سنة 2005.ص304
المطلب الثاني:نقد المجتمع الاستهلاكي(7)
لقد كان الاستهلاك في الماضي هو وسيلة لغاية ما، وهي تحقيق سعادة الإنسان، أما اليوم فقد أصبح الاستهلاك غاية في حد ذاته، فالإنسان اليوم مفتون بإمكانية شراء المزيد من الأشياء الجديدة والأفضل اذ أصبح فعل الشراء والاستهلاك هدفا لا عقلانيا لأنه غاية في ذاته، فشراء أخر موديلات " السيارات، الملابس،الآلات..." هو هدف كل إنسان، وتكون اللذة الحقيقية لاستخدام هذه الأشياء ثانوية بالنسبة للحصول عليها عليها.
لقد حقق المجتمع الصناعي الصناعي وفرة في الانتاج ومن أجل تصريف هذه الوفرة يجب أن توازيها وفرة في الاستهلاك، وبالتالي ومن أجل ترسيخ قيم الاستهلاك تعمل الشركات الكبرى من خلال آليات الإشهار على توحييد الأذواق، فوفرة الإنتاج والاستهلاك- حسب رواد مدرسة فرانكفورت- تخدر المجتمع وتجعله يكتسب مناعة ضد أي تغيير نوعي، فالفرد في هذا المجتمع يعتقد أن له قيمة وأنه حر بمجرد أنه يستطيع أن يختار بين أنواع المنتجات الصناعية لتلبية حاجاته( انه حر في اختيار أسياده ) حسب ماركيوز .
تدفع الرغبة في الاستهلاك الإنسان إلى تكوين رغبة مطلقة منفصلة تماما عن حاجاته الحقيقية، فالمجتمع الصناعي يعتقد أنه حر في وقت فراغه غير أن وقت الفراغ أصبح هو الأخر خاضع للمنظومة الرأسمالية، فالإنسان اليوم يستهلك وقت فراغه في مشاهدة المباريات الرياضية والأفلام السينمائية...بطريقة لا تختلف عن استهلاكه للسلع، فالإنسان يستمتع بمشاهدة ما هو مفروض عليه أن يراه وأن يسمعه.
حاول رواد النظرية النقدية -بعد ما شاهدوه من انحطاط للقيم الفردية داخل المجتمع المتقدم ومن انسحاب لحق الفرد في الاختلاف في النظام الشمولي أولا وفي النظام الرأسمالي- إعمال العقل لإعادة الاعتبار للفرد ولتنشيط الفكر النقدي (وانطلاقا من ذلك عملوا على إعادة قراءة النص الفرويدي على ضوء تحولات المجتمع الصناعي متسائلين عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة و علاقتها بالعملية الإنتاجية، وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) -حسن حنفي وآخرون : فلسفة النقد ونقد الفلسفة في الفكر العربي والغربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت بدون تاريخ.ص65
المطلب الثالث:نقد الايديولوجيا(8)
لقد دأب المنظرون الأوائل منذ ظهور المجتمع البرجوازي إلى الإشارة للايديولوجيا على أنه " الوعي الزائف" وقد خلص أدورنو الى أن ظهور مفهوم الايدولوجيا مرتبط بالمجتمع البرجوازي وليس بالمجتمع الصناعي، وتعتبر صناعة الثقافة التي ترجع جذورها إلى القرن الثامن عشر المولدة للايديولوجيا، وهي غير منفصلة عن تاريخ المجتمع البرجوازي .
ويعتبر علم الاجتماع المعاصر الايديولوجيا كقاعدة " لسوسيولوجيا المعرفة " أي كوصف للتكون الثقافي ولتمثلات الشرائح الاجتماعية المختلفة، بالإضافة إلى العلاقة بينهما وبين الوضع الاجتماعي، فعلم اجتماع المعرفة ينظر الى معنى الحياة الانسانية من منظور الثقافة أو القيم السائدة فيه.
وعلى العموم يرى أدورنوا أن علم الاجتماع يجب أن يهتم بالايديولوجيا عن طريق أبحاثه في التواصل ، ووضعه الى جنب المنتجين والمستهلكين لصناعة الثقافة الموضوعة بهدف انتاج معارف محدودة وعقل محدود، غير أن علم الاجتماع اذا أراد أن يصبح ناقدا للايديولوجيا يجب عليه أن يحلل وسائط الاتصال العامة ويدرس" سيناريوهاتها" التي تعرف بثقافة الجماهير، والتي تصب بعناية بالغة في تبرير ما هو موجود والسيطرة المحكمة على الذوق والنقد على حد سواء .
وعلى العموم تعلن تلك الايديولوجيا أنه ليس هناك ما هو أحسن مما هو كائن ( وهذه الثقافة دعائية ليس إلا، وما تنفك تتحول رويدا رويدا إلى إرهاب، عندما تعمل على إقرار الوضع القائم كأمر لا مناص أو بديل عنه) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8)- هربرت ماركيوز : العقل والثورة هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية ،ترجمة د فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970.ص55
خلاصة
يبدو أن نشأة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت لم تكن وليدة الصدفة بل جاءت نتيجة ظروف العصر والمشاكل التي يتخبط فيها ، وبالتالي ومن أجل صياغة نظرية تساير متطلبات العصر لم يتم الرجوع إلى فكر فيلسوف أو عالم اجتماع واحد، ولم يساير رواد النظرية النقدية التقاليد التي كانت موجودة في تلك المرحلة بالاعتماد على منهج واحد أو إتباع طريق مفكر واحد، بل قام الرواد الأوائل بالمزاوجة بين الكثير من العلوم الاجتماعية، والانطلاق من مفكرين مختلفين وفي بعض الأحيان متعارضين في أطروحاتهم مثل الجمع بين فكر ماكس وماركس، الأمر الذي أكسب مدرسة فرانكفورت قيمة علمية مكنتها من تسيد الفكر الفلسفي المعاصر من خلال مختلف الإشكالات التي تثيرها.
لائحة المراجع:
محمد نور الدين أفاية : الحداثة والتواصل في الفلسفة المعاصرة، نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق ، الطبعة الثانية المغرب1998.
-محمد الخوني، التنوير والنقد، منزلة كانط في فرانكفورت ، دار الحوار للنشر والتوزيع الطبعة الأولى، سوريا 2006.
- محمد الأشهب : الفلسفة والسياسة عند هابرماس، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، المغرب 2006.
- حسن مصدق : يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب ، الطبعة الأولى سنة 2005.
-حسن حنفي وآخرون : فلسفة النقد ونقد الفلسفة في الفكر العربي والغربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت بدون تاريخ.
-هربرت ماركيوز : العقل والثورة هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية ،ترجمة د فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970.
- علاء طاهر ، مدرسة فرنكفورت من هوركهايمر الى هابرماس ، منشورات الانماء القومي،بيروت الطبعة الأولى بدون تاريخ.
-توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت ، ترجمة سعد هجرس ،دار أويا طرابلس،ليبيا ،1998.
التعليقات على الموضوع