نظرية عمود الشّعر عند النقّاد
نظرية
عمود الشّعر عند النقّاد – المرزوقي أنموذجا -
إن ما انتهى إليه المرزوقي
في عمود الشعر، لا يمثل الشعر العربي كله؛ وإنما هو صورة لما اتفّق عليه النقاد
حتى القرن الرابع الهجري.
فامرؤ القيس، وهو أقدم شاعر
عرفته العربية، كان يعدّ إمام المبتكرين، فلا يقال إنه كان خارجاً على " عمود
الشعر القديم " (1) هذا، برغم أنه في شعره لم يلتزم القوانين المحدّدة في
عمود الشعر.
لقد أعجب النقاد بالشعر
الجاهلي، فتشبّثوا به ودعوا الشعراء للكتابة على مثاله.. ثم نظروا فيه، وحاولوا
تقعيد أصوله، فكان عمود الشعر، الذي كان "عندهم يشبه عمود الدين، الحياد عنه
بدعة من البدع، أو ضلال يجب أن يتناول بالكراهة التي تبلغ أحياناً حدّ التحريم
"(2).
هذا التشبّث بعمود الشعر
وبطريقة القدماء، كان سبباً رئيساً في جمود الشعر العربي وتأخره. ويمكننا إجمال
هذه العوامل التي أدّت إلى جمود الشعر في الأمور التالية:
1 -إهمال الخيال:
لقد كان لإهمال العرب دور
الخيال، واعتمادهم التنظيم في قواعدهم النقدية، أثر كبيرٌ في جمود الشعر العربي،
وتحوله إلى صنعة لا تحتاج إلى كثير من الخيال والابتكار (3). فالخيال عندهم ضرب من
الوهم (4)، والتخييل قياس شعري خادع (5) لهذا، كان الربط بين الخيال والصورة في
النقد القديم عبثاً، " فكلاهما ذو مفهوم مستقلّ عن الآخر " (6).
إنّ ضعف ملكة الخيال الشعري
عند العرب هو أثر من آثار خطابية الروح العربية المشتعلة، التي " لا تعرف
الأناة في الفكر، فضلاً عن الاستغراق فيه " (7). وهو أيضاً أثر من آثار
ماديتها المحضة، التي " لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر؛ مما يدعو إلى
الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى "(7). لقد كان لهاتين النزعتين
(الخطابية والمادية)، أثر كبير في النظر إلى الشاعر على أنه خطيب، وظيفته حماية
ذمار القبيلة والنضال عن أعراضها بلسانه، واستفزاز نخوة الحميّة في أبنائها حين
تأزف الآزفة ؛" حتى إنهم لمّا جعلوا لشعرائهم أرواحاً تملي عليهم الشعر، لم
يجعلوا تلك الأرواح ملائكة أو آلهة... وإنما جعلوها شياطين تصقل لسان الشاعر
وتجعله أدنى إلى بلاغة القول وجزالة الخطاب، وما ذلك إلاّ لأنّهم لا يرون في
الشاعر إلاّ خطيباً ينظم ما يقول. وقد تأثر الشعر العربي بهذا الفهم الذي كان
يفهمه العرب من الشاعر، فكان فيه شيء كثير من الخطابة المنظومة "(8).
وإن تشبيه الشاعر بالخطيب
جعلهم يشبّهون الشعر بالنثر - فيما عدا ضرورتي الوزن والقافية " فالشعر كلام
موزون مقفّى" - ولمّا كان النثر يقوم على وضوح الدلالة، فقد أصبح الوضوح
بالتالي قيمة يجب تحقّقها في الشعر. وبما أن " التشبيه، بما فيه من قيم
عقلية، يتناسب مع الأداء النثري " (9) فقد عدّ وسيلة تصويرية في الشعر لتحقيق
الوضوح النثري فيه. ولعلّ المرزوقي قصد إلى ذلك، بطلبه المقاربة في التشبيه.
إلى هذا الوضوح النثري في
التجربة الشعرية الجاهلية، يشير أيليا حاوي، فيقول: لقد كانت " التجربة في
الشعر القديم.. شبيهة بالأفكار النثرية، لوضوحها واستقامة حدودها " (10).
وللطبيعة الجاهلية دورها في هذا المقام، فهي ذات أثر كبير في هذه النثرية الخطابية
(11)، وفي ضعف الفكر والخيال في الشعر الجاهلي (12). غير أنّ هذه الطبيعة إذا كانت
قد تغيّرت فيما بعد، فإن أسلوب التعبير الشعري لم يتغيرّ، واستمرّ على النهج
الخطابي النثري الجاهلي. وذلك لأن العرب لما اعتبروا الشعر الجاهلي مثالاً أعلى
يُحتذى، واستمدّوا منه مقاييسهم النقدية، أرسخوا مفاهيمه وحافظوا على أصوله،
وجمّدوا بالتالي الشعر العربي في قوالبه (13).
لقد أجمع النقاد على أن
الأدب لا يقصد لذاته، من حيث كونه فناً جادّاً من فنون الحياة، له روحه وأطواره
ونزعاته. فقد كان هذا الأدب عندهم وسيلة من وسائل الدين، مما جعلهم لا يفهمون منه
إلاّ أنه ألفاظ وتراكيب وجمل وأساليب، ليس وراءها روح ولا فكر. وقد جعلهم هذا
الأمر أيضاً يعتقدون أن الأدب الجاهلي هو خير المنتجات العقلية التي عرفها العالم
(14). يقول الشابي: " وقد لجّ بهم هذا الفكر حتى تعصبوا للأدب الجاهلي،
وازدروا ما أنتجه الذهن الإسلامي" (14). فهم لم يعترفوا بالتطور العقلي
والانفعالي للشعراء والناس، الذي يتطلب وسائل أسلوبية جديدة تتناسب مع تطور الحياة
(15).
هذا، وقد كان لإخفاق
الشعراء، في استخدام الفكر في الشعر، أثره أيضاً في إعلاء قيمة التقاليد الموروثة،
والغضّ من دور ثقافة الشاعر وخياله (16).
2 -تقديم العقل:
يقابل إهمال الخيال عند
النقاد الإعلاء من شأن العقل في الإبداع الشعري. فالمرزوقي يطلب في عيار المعنى أن
" يُعْرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب " (17). وعبد القاهر يجعل غرضه
في الكلام على الاستعارة أن يبيّن " أحوالها في كرم منصبها من العقل وتمكنها
في نصابه، وقرب رحمها منه أو بعدها، حين تنسب، عنه (118)"
لقد نظر النقاد العرب إلى
الشعر نظرة " عقلية تعتمد على المنطق.... (لا) نفسية تعتمد على الشعور
"، كما يذهب النقد الحديث."(19).
ولهذه النظرة العقلية
تجلياتها، فهي واضحة في:
أ-طلب " القصد في
الصور، ومسايرتها للمستقر الثابت من النظم والعادات " كما يقول محمد غنيمي
هلال. وهم، في ذلك يلتقون بالكلاسيكيين. (20).
ب-طلب الصدق (الواقعي
النموذجي): " فأغلب الظنّ أن مسألة عرض المعنى على العقل، من خلال المنطق
حيناً، والعرف حيناً آخر، كان لها أثر بالغ في الحدّ من جنوح الخيال إلى أفق غير
أفق الظاهر والعرف التقليدي، فكان الشعر تقليداً محضاً لظاهر الطبيعة من جهة،
وطريقة القدماء من جهة أخرى " (21). هذا ما يفهم من الصدق الذي أرادوه: إنه
صدق واقعي نموذجي عقلي، لا صدق شعوري نفسي.
جـ ـ الميل إلى الوضوح:
فالشاعر غالباً ما يؤثر التعبير المجرّد القليل الصور، الذي يقصد إلى إمتاع العقل
أكثر مما إلى إمتاع الخيال " (22)
دـ -إيثار الصورة المصنوعة
على الصورة العفوية. وسبب ذلك أنّ " تحقيق عناصر الجمال في العمل المصنوع أمر
يحكم فيه العقل، والحواس هي التي تتّخذ معبراً تنتقل عليه، لكي تتمثل للعقل "
(23).
هـ ـ حسّية إدراك الجمال،
وتعليل ذلك أن " الأساس الحسّي، وإن اعتمد على الحواسّ، فإنه يرجع آخر الأمر
إلى العقل. فما تدركه الحواس لا يفسّر بانفعال نفسي، ولكنه يفسّر في العقل "(24).
و ـ النظرة الجزئية
التفكيكية إلى الشعر، إذ ينظر الناقد إلى القصيدة، من حيث كونها مجموعة أجزاء، لا
كلاً موحّداً. فالجمال، عند العرب هو جمال المركبات لا المفردات، وهو في
المركبّات، حين تكون العلاقات بينها حسب مقتضيات العقل (25).
ز -تقديم التشبيه على
الاستعارة، وذلك بتأثير النزعة العقلية الاتباعية عند النقاد.. فقد " أهمل
معظم النقاد العرب القدامى الاستعارة، لأنهم كانوا اتباعيين، ينصاعون للعقل
وأحكامه، والمنطق وقوانينه؛ فعظم عندهم التشبيه "(26).
ح ـ طلب الإصابة، والمقاربة
في التشبيه، مما ينسجم مع النزعة المنطقية العقلية من جهة، ويرتبط بالتوافق الشكلي
من جهة ثانية. يقول جابر عصفور:" " والإصابة والمقاربة ..... مصطلحان
يمكن أن يندرجا تحت ما نسميه بالتناسب المنطقي بين أطراف التشبيه، لأنهما يرتبطان
ـ في النهاية ـ بمدى التوافق الشكلي بين الأطراف " (27).
ط ـ ربط الشعر بالنثر. فإذا
كان النثر مرتبطاً بالمنطق (28)، والشعر مشبّهاً بالنثر، فإن العلاقة في الشعر
أيضاً منطقية ...
ي ـ والبحث عن وجه شبه بين
المركبات، والإلحاح على مضمون الألوان البيانية " (29)، على حدّ قول نعيم
اليافي... فهو يرى أن بناء الأشكال البلاغية التقليدية يميل إلى الاتكاء على العقل
والمنطق. فالفنان، إذ كان ينشئ أبنيته الفنية، إنما كان يحكم بناء أجزائها إحكاماً
عقلياً، قائماً على التعليل المنطقي الموضوعي، لا على التعليل الحدسي الشعوري
(30).
ويعلّق نعيم اليافي على هذا
الموقف التقليدي، مؤكّداً قيمة العلاقات الحدسية في الأشكال البلاغية، فيقول:
والحق " أن العلاقات بين المركّبات في الأشكال البلاغية، ليست علاقات منطقية
تقوم على الضرورة، وإنما هي علاقات حدسية أو شعورية، تقوم على الاحتمال، وعلى
الإسقاط الروحي. إنها علاقات لا تقوم على المشابهة أي لا تحمل انعكاسات مقيّدة،
وإنما هي علاقات تقوم على الحدس. ولذلك، فهي انعكاسات حرة لايقيّدها سوى منطق الفن
وحدّه "(31).
إلى هذا الجانب الحدسي يشير
كلّ من استوفر والقاضي الجرجاني، (32). فيقول هذا الأخير: إن "الشعر لايحُبّب
إلى النفوس بالنظر والمحاجّة، ولايحلّى في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها
عليه القبول والطلاوة، ويقرّبه منها الرونق والحلاوة " (32).
والتناقض واضح بين موقف
الجرجاني هذا، وما ذكرناه من موقف النقاد العرب العام. وتعليل ذلك أن هذه النظرة
عند الجرجاني فردية لا عامة. فالنقاد، كما رأينا، كانوا على خلافه يريدون من الشعر
أن يثير علاقات عقلية منطقية واضحة. (32).
3 -الشعر صناعة:
إنّ تاريخ النقد الأدبي عند
العرب، لايتحدّث عن الشعر من حيث كونه خلقاً أو رؤية (33) شعرية، وإنما من حيث هو
صناعة. لهذا احتفل النقاد بالصياغة الخارجية الشكلية، فلم يروا ضيراً في تكرار
المعاني ما دامت الصياغة مبتكرة (34). مما أدى إلى تكرار الصور نفسها وتشابهها
(35)، والاعتماد بالتالي على الصور الجاهزة والثابتة والمكررة (36)، التي حظيت
بإجماع عام من النقاد والناس.
لقد كان للصياغة الشكلية في
الشعر أثر بارز في إغفال دور الخيال والصورة. وقد كانت النزعة الخطابية سبباً
رئيساً لهذا الاهتمام بالصياغة، فالشاعر يقوم عند العرب مقام الخطيب، لهذا عليه أن
يعنى بتجويد شعره ليحقّق التأثير المنشود في الجماعة. يقول مصطفى ناصف: كان
الشاعر: يعنّي نفسه -غالباً -ليكون خطيباً مفصحاً، يتحدث إلى سامعين، ويحفل بمطالب
المتعة الجماعية ": (37).
غير أن سبباً آخر أدّى أيضاً
إلى تحويل الاهتمام إلى الشكل والصياغة في إبداع الشعر، وهو ارتباطه بالفنون
التصويرية النفعية، في أذهان النقاد والشعراء والناس.
4 -التحسين والتعجيب:
لقد كان لهاتين الوظيفتين
اللتين اعتد بهما الشعر والنقد -وهما من وظائف الصناعة الشعرية -أثرهما في جمود
الشعر العربي، إذ كان مقياس الجودة عند النقاد ما يحقّقه الشعر من متعة ولذة. يقول
أدونيس: إن الناقد العربي " لم يكن ينظر أو يهمه أن ينظر في ما أضافه الشعر
أو يضيفه من عناصر الجديد، وفي أهمية هذه العناصر بالنسبة إلى الحياة العربية،
الثقافية والروحية، وإنما كان يكتفي بأن يبحث فيه عن المتعة واللذة "..(38).
لقد كانت غاية الشعر في
النقد العربي جمالية تعليمية، الأمر الذي جعل الشعراء والنقاد يهتمون بالصياغة دون
المضمون. هذا ما عبّر عنه قدامة بن جعفر بقوله: " وعلى الشاعر، إذا شرع في أي
معنى كان.... أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة ".
ويعلّق عز الدين إسماعيل على هذا الكلام بقوله: " ففي هذا يصوّر لنا قدامة
عدم الاهتمام بقيمة المعنى أو استجادة الشعر لأن معناه حميد، ولكنه يهتم بالصورة.
وليكن المعنى حميداً أو ذميماً، فهذا لا يعني، فليس للشعر غاية أخلاقية أو
تعليمية، وإنما هو ينظر فقط إلى جانب الجمال الذي يسميه تجويد الصورة " (39).
إن رغبة العرب في التحسين
والتعجيب جعلتهم يولعون بالجمال أينما كان. لهذا، " لم تكن (العرب) تشبه
-غالباً -بغية غرض معيّن، وإنما لإرضاء الحس الجمالي، أو لمجرّد الإعجاب بالتشبيه
ذاته " (40) لكنّ هذا الإعجاب بالجمال لم يكن مطلقاً، وإنما كان "
بالجمال الذي يتمثّل للحسّ " فقط (41).
هذه النظرة الجمالية إلى
الشعر، التي تدخل في صلب نظرية الفن للفن، كان لها أثر كبير، فيما بعد، في جمود
الشعر العربي. وذلك، اعتباراً من القرن الرابع للهجرة، إذ بدأت " فكرة
التحسين والزينة... تطغى على التعبير والبيان في القرن الثالث "(42) أما عبد
القاهر الجرجاني فيتحدّث عن تصاوير الشعراء، فيرى" أنها تفعل فعلاً شبيهاً
بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير، التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش أو
بالنحت والنقر؛ إذ تعجب وتخلب وتفتن فتنة لا ينكر مكانها ولا يخفى تأثيرها "
(43).
وفي هذا الكلام إشارة صريحة
إلى ارتباط الشعر بالفنون النفعية، وهو أوضح دليل أيضاً على ما آلت إليه وظيفة
الشعر في القرن الخامس، من سعي إلى إثارة المتعة الجمالية. بل إن ما يلفت انتباهنا
فيه، هذا التركيز على التعجيب والفتنة، فكأنه لا وظيفة للشعر سوى ذلك.
5 -الشكلية:
ص102
يؤكد المرزوقي، في حديثه عن
عمود الشعر، هذه الشكلية في تذوق الشعر وإنتاجه؛ وذلك من حيث كونه تعبيراً عن معنى
محسوس يأنس إليه العقل... فإن " جوهر الشعر -كما يبدو في هذا العمود -يتعلّق
بالشكل، أو المظهر، في اللفظ، والوصف، والتشبيه، والاستعارة، والمشاكلة، واقتضاء
القافية، فضلاً عمّا في معيار كل باب من قيود فرعية أخرى. وربما كان لنا أن
نستنبط، إذن، قيام الذوق العربي على العناية بالشكل، لا من حيث تعبيره عن معنى
مجرّد، وإنما من حيث تعبيره عن معنى محسوس يأنس إليه العقل. فإذا ما قبل العقل
المعنى، لم يبق للشاعر إلاّ أن يتجرّد لوضعه في قمقم الشكل. من خلال اللفظ،
والإصابة، والمقاربة، والمناسبة، والمشاركة، فيبعد بذلك عن عالم الفكر الإنساني، وعن
محاكاة المشاعر الباطنة الغامضة، التي قد تتأبّى على العقل الصحيح "(44).
لقد كان لنظرة العرب الحسّية
في إدراك الجمال، إذاً، أثرها العميق في انصراف " الأغلبية إلى الاهتمام
بالجمال الشكلي الذي يتأدّى إلى الحواس، فيلذّها أو يؤذيها.. وقد أمكن (فيما بعد)
ضبط القواعد التي تتحكم في الشكل، (لتصبح) هي قواعد الصنعة " (45) وهكذا،
سيطرت الصنعة على الفكر النقدي الجمالي العربي (46).
ولابدّ هنا من التمييز بين
نوعين من الحسّية: الحسية النفسية والحسية العقلية. " فالأساس الحسي النفسي
يضع في الأشياء مشاعر من خلال المدركات الحسية، والأساس الحسي العقلي. يكشف في
الأشياء قوانين تتفق معه من خلال هذه المدركات الحسية. هذا يعتمد على الإثارات
الوجدانية، وذاك يكشف عن القوانين الطبيعية " (47). ولمّا كان النقاد العرب
قد قدّموا العقل على الخيال والحسّ على الحواس، فإنهم نظروا إلى الحسية من الأساس
العقلي لا النفسي. هذا، وإن كان الشعراء في كثير من الأحيان قد انطلقوا من الحسية
النفسية. لقد كان النقاد " يقدّرون التشبيهات والاستعارات بمقدار ما يتضح
فيها من شبه بالأشياء الطبيعية "(47). أي بمقدار " المطابقة الشكلية، أو
الظاهرية بين الأصل، والصورة، في التشبيه والاستعارة وسائر الصور البيانية
"(48).
ولا غرابة في هذا الموقف
النقدي، وقد كان الاتجاه السائد " أن الجمال في الأشياء، ونحن نستكشفه "
(47). وهذا يعني أن الجمال عند هؤلاء النقاد موضوعي، ينصرف الاهتمام على أساسه
" إلى الموطن الذي يمكن أن تنضبط فيه العناصر الموضوعية للشيء الجميل
"(47).
لقد جعلت هذه النظرة
الموضوعية إلى الجمال النقاد ينظرون إلى الشعر نظرة شكلية سطحية، تعتمد على
الدلالات الحرفية والقوانين المنطقية، لا على الرؤى العاطفية والمواقف الفكرية
النابعة من داخل الشعر. ( 49).
ولعل هذا هو سبب إعجابهم
ببيت ابن المعتز:
وانظر إليه كزورق من فضة ...
قد أثقلته حمولة من عنبر
يقول عز الدين إسماعيل في
تعليقه على هذا البيت:" كان يعدّ قمّة في التشبيهات التامة، وإن كان لا يدلّ
على إحساس صادق بالهلال، ولا يمكن أن يكون الزورق الفضي سوى نتيجة لعملية عقلية باحتة،
فكل عنصر من عناصر هذا الشكل يتساوى مع ما يوازيه من ذاك، ولكن! هل يثير الهلال في
النفس نفس الشعور الذي يثيره الزورق الفضّي المحمّل بالعنبر؟ كل شخص له خبرة نفسية
يستطيع أن يجيب بالسلب، ومن ثم يكون التشبيه فاشلاً، لأن ما يثيره المشبه لا يثيره
المشبه به " (50).
هذا ما يدفع الناقد نفسه لأن
يستخلص أن " الشاعر (القديم) كثيراً ما كان يندفع وراء الصور الحسية، التي
تبدو له غاية في الجمال، ويتغافل عمّا يمكن أن يكون بين الشعور الذي تثيره،
والشعور أو المعنى الذي كان ينبغي عليها أن تنقله إلى القارئ من علاقة "( 51).
وشاهد ذلك عنده بيت قديم
" أراد الشاعر فيه أن يصور فتاة باكية حزينة نادمة، فقال:
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت
... ورداً وعضّت على العناب بالبرد
فجعل اللؤلؤ موازياً للدموع،
والنرجس مقابلاً للعين، والورد للخدود، أمّا العنّاب، فلأطراف الأصابع، وأما
البرد، فللأسنان. وأعتقد أن كل ذوّاقة يحسّ ما يمكن أن تثيره هذه الصورة في النفس
من ألوان المشاعر، لا يمكن بحال من الأحوال أن يحسّ بإحساس تلك الفتاة المسكينة
الحزينة الباكية النادمة " (52).
هذا هو موقف العربي من
الصورة الشعرية، ينظر إليها بجمودها المكاني وكأنه أمام تمثال أصمّ لا صورة حيّة.
لقد كان يقف عند حدود الشكل الظاهر، ولا يغوص إلى أبعاد الصورة وعلاقتها بنفس
قائلها (53). وهذا أدى بالتالي إلى جمود الصورة " فلم يكن فيها أي خاصة عضوية
أو حركية، بل كانت عناصر جامدة "(54).
ومن مظاهر هذه الشكلية في
نقد الشعر، أيضاً، محاولتهم " تقويم العمل الأدبي على أساس من القيم الجزئية،
التي تقف في الأعمّ الأغلب عند الحكم على صحة المعاني وخطئها، ورداءة الأفكار
وجودتها، ثم عند حدود الاستعارة والتشبيه والمجاز والكناية، وغير ذلك مما يتناول
الشكل الخارجي للعمل الأدبي، دون النظر إليه نظرة كلية تقوم على نوع من التفسير
النفسي والاجتماعي والجمالي، ولا تعنى بفلسفة المضمون ...! " (55).
وقد أدّى اهتمام النقاد
بالمظهر الخارجي للصورة إلى المبالغة في استخدام وسائل التعبير، بحدودها الشكلية
السطحية، غير مهتمين بما كان لها من قيمة معنوية انفعالية في الشعر القديم. يقول
محمد زغلول سلاّم: إن اهتمام النقاد بالمظهر الخارجي للصورة " أدّى إلى
الإغراق، بعد، في استخدام هذه الفنون التعبيرية، في حدود المشاكلات الظاهرية، ولم
يتقصّوا حقيقة استخدام التشبيه والاستعارة لدى القدماء الذين لم يقفوا عند حدود
تلك المشاكلات؛ بل كان دورها لديهم أعمق. فهي تحمل إلى جانب المظهر الشكلي لمحات
من المشاعر والأحاسيس، ممّا جعلهم يشبهون المعنى، ويصورونه في مجموعة من الصور
متباينة تباين الأحاسيس والمواقف " (56).
كما أدى اهتمام النقاد
بالمظهر الخارجي للصورة، وبالتطابق الشكلي بين طرفيها إلى نشوء مشكلة الرؤية
الثنائية. " فالنظرة البلاغية للأشكال الفنية توصف بالثنائية، لأنها ترجع
العلاقة إلى مركبيها، فتقابل أحدهما بالآخر، أو تجعله يقوم بدوره أمامه. هذه
النظرة الثنائية الانفصالية التي تشطر (الصورة) إلى مركبيها، نظرة ضيقة ومحطمة
للشكل البلاغي ولوحدته، لأن الذهن في حالتي إبداعه وإدراكه، لا يرى المركبين وهما
يعملان بمعزل عن بعضهما البعض (كذا) في حالة انفصال وتعارض، وإنما يراهما في حالة
عضوية متصلة، وفي وضع متوافق يعمل أحدهما في الآخر "(57).
لهذا نرى أنّ جمال الأشكال
البلاغية وقيمة الصور الفنية في وحدتها، وفي مقدرتها على الإيحاء المعنوي
والانفعالي.. إن نطاقها " يقع خلف هذا العالم المنفصل، ويقع بالتالي خلف
الأثنينية وتعارضها. إن نطاقها فقط هو الوحدة، وحدة الأشياء، وحدة الذهن بالموضوع،
وحدة العربة وما تحمل (الفكرة والوسيلة). وعن طريق هذه الوحدة وفيها يتولد الكائن
الجديد (58). وتتخلّق الرؤية المبدعة والفريدة في نفس (كذا) الوقت " (59).
التعليقات على الموضوع