المؤثرات الأجنبية في النقد العربي القديم
أولا:الترجمة
والتأثير الأجنبي:
اهتم
العرب بالترجمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كضرورة حضارية مهمة لتوصيل
الرسالة لجميع الأمم. ولكن النشاط الفعلي للترجمة ظهر في العصرين الأموي والعباسي،
حيث يتفق المؤرخون العرب والأجانب على أن العصر الأموي عرف بنقل المصنفات
الإغريقية والسريانية إلى اللغة العربية. وقد كانت من ميادين عدة ومختلفة نذكر
منها : الطب والفلك والكيمياء، كما نالت الترجمة في العصر العباسي الحظوة العظمى،
إذ يعتبر هذا العصر الفترة الذهبية لتطورها وازدهارها سواء من حيث التنظيم أو من
حيث غزارة الإنتاج وجودته، ولا سيما في خلافة كل من أبي جعفر
المنصور (136- 158ه)و(هارون
الرشيد) (170 -194 ه)، ثم (الخليفةالمأمون) (
198-218 ه).
فقد أدى اهتمام هؤلاء بميدان علوم الفلك
والنجوم،وحرصهم على معرفة ما كتبه السلف وباقي الأمم، لأن يأمروا بنقل كتب الفلسفة
والطب والفلك والحكمة والمنطق.
كما
بلغ اهتمام الخليفة (هارون الرشيد) بالعلوم الأجنبية، أنأرسل بعثات علمية إلى
الروم بغية البحث عن المخطوطات اليونانية وجلبها إلى الوطن مهما كان ثمنها، كما
تأسست في عهد الخليفة (المأمون) مدرسة علمية ذائعة الصيت عرفت بــ (بيت الحكمة)،
مقرها بغداد.وقد اهتمت بالأبحاث العلمية المتميزة، وكذا بالترجمة والتأليف في
مختلف المجالات والميادين، فبرز،نتيجة لذلك، علماءعلى درجة عظيمة من العلم والتبحر
في المعرفة.
وفي
هذه المرحلة تم التطرق إلى مواضيع ومجالات متعددة كالرياضيات والتاريخ والأخلاق
والنفسيات والفلسفة والطب.
عموما فإن حركة النقل والترجمة التي حدثت
إبان العصر العباسي، تعتبر أول حركة مُنظمة ومُرتبة في تاريخ المسلمين، قام فيها
العرب بالترجمة عن لغات متعددة مثل الهندية والفارسية والسريانية والقبطية إلى
العربية.كما تميزت هذه التراجم بتنوعها إذ راحت تغطى شتى أنواع العلوم على
اختلافها: الفلسفة والمنطق والطب والفلك والرياضيات والكيمياء والطبيعة والأدب
وغيرها.
أما عن أبرز المترجمين فنذكر:
حُنين بن إسحاق (ت260ه): أجاد
اليونانية والسريانية والفارسية، وكان رئيس بيت الحكمة. تمكن من ترجمة الكثير من مصنفات (أبقراط)
و(جالينوس). كما ترجم
لسقراط، وترجم التّوراة من اليونانية إلى العربية.ولم يقتصر دوره على
التّرجمة فقط، وإنّما عمل على تدريسها أيضا.
ولده إسحاق بن حُنين بن إسحاق (ت298ه)،
وقد قام بترجمة الطبّ والفيزياء والفلسفة اليونانية للعربية. وكانت ترجماته تتميز
بالدّقة التي تدل على فهم عميق لفكر أرسطو.
ومن
أعلام الترجمة القدامى–أيضا-يوحنا بن البطريق، وقد ترجم الكثير من كتب أرسطو، والحجاج بن يوسف بن مطر
الوراق الكوفي (عاش سنة 314هـ)، وقسطا بن لوقا البعلبكي (عاش سنة 230هـ)، وعبد
المسيح بن ناعمة الحمصي (عاش سنة 520هـ)، وثابت بن قرة (ت288هـ)، وحبيش الأعسم ابن
أخت حنين (ت301هـ)، ومتى بن يونس (ت320هـ)، وسنان بن ثابت بن قرة (ت 360هـ)، ويحي
بن عدي (ت 364هـ) وغيرهم.
ولم يكن الفكر اليوناني وحده مؤثرا في الحضارة العربية،
فقد نالت الحضارة الفارسية والهندية اهتماما من المترجمين،وكان لهما أثر
واضح،وخاصة في مجال الأدب.ومن الذين عرفوا بترجمة الكتب الفارسية: عبد الله بن
المقفع، الحسن بن سهل. حيث ترجم الأولعن الفرس أهم أثر هندي في الأدب العربي وهو:
كليلة ودمنة، إضافة إلى: الأدب الكبير، الأدب الصغير، كتاب اليتيمة عن الهندية،
وقد انتقل جزء كبير من ثقافة الهند وعلومهم إلى فارس،وعبرها إلى العربية، ومن العلوم
التي أخذها المسلمون عنهم: الطب والفلك والرياضيات والحكمةوالأدب والبلاغة. ومما استعاروه في مجال البلاغة، المفهوم، وفكرة
''مقتضى الحال''. وقد ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) وابن رشيق المسيلي في
(العمدة) نماذج وأقوال عنهم.
صور عن التأثير الأجنبي في النقد العربي
القديم
نماذج التأثر بالثقافة الأجنبية كثيرة في
النقد العربي القديم،سنركز على شخصيتين نقديتين هما: قدامة بن جعفر وحازم
القرطاجني.
قُدامة بن جعفر
بن زياد البغدادي البصري ولد سنة (260ه) أو (276ه)، وتوفِّي عام (337 ه). نشأ في
بغداد. أدرك ثعلبًا والمبرِّد وابن قتيبة وطبقتهم. كان نصرانيا ثم أسلَم على يد
الخليفة العباسيِّ المكتفي بالله. من أهم ما ألف كتاب (نقد الشعر)، أوَّل أثر
نقديٍّ عِلميٍّ في الأدب العربي.
إضافة إلى براعته في البلاغة والأدب والفقه والكلام، تأثَّر
بالمنطق والفلسفة، وظهر ذلك واضحا في نظرته للشعر ولعلم البديع.
يقول قدامة في تعريفه للشعر:''إنَّ
أول ما يُحتاج إليه في العبارة عن هذا الفنِّ معرفةُ حدِّ الشعر الحائز له عمَّا
ليس بشعر، وليس يوجد في العبارة عن ذلك أبلغُ ولا أوجزُ - مع تمام الدلالة - مِن
أن يُقال فيه: إنه قولٌ موزون مقفًّى يدلُّ على معنًى''. ثم شرَح هذا التعريف:
''فقولُنا: (قول) دالٌّ على أصل الكلام الذي هو بمنزلة الجنس للشِّعر. وقولنا:
(موزون) يَفصِله مما ليس بموزون؛ إذ كان من القول موزونٌ وغير موزون.
وقولنا: (مقفًّى) فصلٌ بينَ ما له من
الكلام الموزون قوافٍ، وبين ما لا قوافيَ له ولا مَقاطع. وقولنا: (يدل على
معنى) يَفصل ما جرى من القول على قافية ووزنٍ، مع دلالةٍ على معنًى مما جرى على
ذلك من غير دلالة على معنى؛ فإنه لو أراد مريدٌ أن يَعمل من ذلك شيئًا على هذه
الجهة لأمكَنه وما تعذَّر عليه''.
(أبو الفرج
قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي للطبعوالنشر والتوزيع،
ط3، القاهرة، مصر، 20 رجب 1398، 26 يونيو 1978، ص: 17)
وبين هذه العناصر علاقات تدخلها في
تركيبات وائتلافات، كما تحكمها معايير ونعوت تحدد درجة الجودة فيها أو الرداءة على
هذا النَّحو:
* اللفظ مع الوزن.
* اللفظ مع المعنى.
* الوزن مع المعنى.
* القافية مع المعنى.
ثم فصّل في معايير الجودة في
الشعر ونعوته، وصنفها إلى عناصر شكلية ومنها:
أ - نعت اللفظ: ويَشترط فيه الفَصاحة
والسماحةَ وخُلوَّه من البشاعة.
ب - نعت الوزن: ويشتَرط فيه أن يكون
سهل العروض.
ج - نعت القافية: ويشترط فيها أن
تكون العذوبةَ والسلاسةَ.
2- وأخرى متعلقة بالمعنى: وتتمثل في:
أ-صحَّة المعنى: بوضعُ الكلمات في
قوالِبَ ملائمة لنفسية المتلقِّي، من غير إحالة أو إغراق.
ب - مطابقة الغرَض للمعنى، واختيار
الألفاظ التي تُلائمه.
بعدها عالج قدامة معايير الرداءة في
الشعر وعيوبه، وهي كالآتي:
1-عيوب شكلية: وهي:
أ- عيوب اللفظ: بأن يكون ملحونًا
وجاريًا على غيرِ سبيل الإعراب واللغة أو شاذًّا، ومن العيوب المعاظلة.
ب - عيوب الوزن: وهو التخلُّع، وهو
أن يَكون قبيحَ الوزن قد أفرط تزحيفه.
ج - عيوب القافية: ومنها التجميع.
2- عيوب المعاني: ومنها:
أ - فساد الأقسام، فساد المقابلات، مخالفة العُرف،
والإتيان بما ليس في العادة والطبع.
(المصدر نفسه، ص: 35 وما بعدها).
عموما، أحدث قدامة بكتابه ردة فعل
مميزة في تاريخ النقد العربي، واختلفت نظرة النقاد إليه بين مستحسن ومستهجن، فقد
وضع عبداللطيف البَغدادي كتابه (كشف الظُّلامة عن قدامة)، وكتب الآمدي كتابًا سماه
(تبيين غلط قدامة)، وابن رَشيق (تزييف نقد قدامة).
وأغلب الظن أن عزوف بعض النقاد عن
كتاب قدامة هو النظرة المنطقية الصارمة التي عالج بها الشعر والبديع، إذ لم يقم
بنقد العمل الشعريِّ انطلاقًا مما توجبه الظاهرةُ نفسُها، ولكنه أقام بناء نقديًّا
بعد ذلك أقحَم فيه الشِّعر.
القرطاجني
أبو الحسن حازم، ولد سنة (608ه) بقرطاجنة ونسب إليها، بدأ مسيرته بحفظ القرآن
الكريم، ثمّ قواعد اللغة والنحو والفقه والحديث والعلوم الشرعية والفلسفية. هاجر
ككثير من مواطنيه بعد توالي هزائم المسلمين في الأندلس ناحية مراكش بالمغرب
الأقصى، ومنها دخل تونس حيث توفي سنة (684ه) تاركا إرثا فكريا محترما.
حاوركتاب فن الشعر لأرسطو من خلال
قراءات ابن سينا (ت428ه) والفارابي (ت339ه) وابن رشد (ت595ه).
وقد دفعه
للاهتمام بنقد الشعر ما لاحظه من خلط وتدهور في
المفاهيم بما يتطلب إعادة تنظيمها والتنظير لفهمها، بترتيب السليم وبعثه من جديد،
وطرح الخاطئ فيها.
وأول ما لاحظه القرطاجني الفروق
الواقعة بين الأدبين اليوناني والعربي، لأنّ ''جلّ أشعارهم على خرافات... وكانت
لهم طريقة أيضا ـــــــ وهي كثيرة في أشعارهم ــــــ يذكرون فيها انتقال أمور
الزمان وتصاريفه، وتنقل الدول وما تجري عليه أحوال الناس وتؤول إليه''، فلو''وجد
هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال،
والاستدلالات واختلاف ضروب الإيقاع في فنون الكلام لفظا ومعنى، وتبحرهم في أصناف
المعاني وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها
واقتراناتها ولطف التفاتاتهم وتتميماتهم واستطراداتهم، وحسن مآخذهم ومنازعهم
وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاءوا، لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية''.
(حازم القرطاجني، منهاج البلغاء
وسراج الأدباء، ص: 68، 69).
من آرائه في حدّ الشعر: ''الشعر كلام
مخيل موزون مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك. والتئامه من مقدمات مخيلة،
صادقة كانت أو كاذبة، لا يشترط فيها - بما هي شعر- غير التخييل''.
(حازم القرطاجني، منهاج البلغاء
وسراج الأدباء، ص: 89)
وتحقيق تلك الغاية مرتبط ''بما يتضمن
(أي الشعر) من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف
الكلام أو قوة صدقه أو شهرته، أو بمجموع ذلك''.
(حازم القرطاجني، منهاج البلغاء
وسراج الأدباء، ص: 69).
وهنا يضعنا القرطاجني أمام عمل
قوّتين مهمتين هما: المحاكاة والتخييل، إذ حلّل وفقهما العملية الإبداعية من جانب
الإبداع ومن جانب التلقي، اقتداء بالفلاسفة الذين تعقبوا القول الشعري، باعتباره
عملا مخيلا قائما على فنّ المحاكاة، وعبرهما (أي المحاكاة والتخييل)، قدم آراءه
فيما يتعلق بعوامل الإبداع، والصدق في الشعر، والفرق بينه وبين الخطابة، وأغراضه
ومعانيه، والأوزان العروضية. وقد حلل كل تلك القضايا من وجهة نظر فلسفية مزج فيها
بين النظرة المنطقية للشعر بالبلاغة العربية، ما جعل كتابه من أهم كتب النقد
العربي القديم من حيث نضج الفكرة وجدة الطرح.
مراجع للتوسع:
1- نقد الشعر؛ أبو الفرَج قدامة
بن جعفر، تحقيق الدكتور عبدالمنعم خفاجي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
2- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج
الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان،
1981
3- سعد مصلوح، حازم القرطاجني ونظرية
المحاكاة والتخييل في الشعر، ط1، مطبعة دار التأليف، القاهرة، مصر، نشر عالم
الكتب، 1400ه، 1980م.
4- إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي
عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري، ط1، دار الشروق،
عمان، الأردن، 2001.
5- عباس ارحيلة: الأثر الأرسطي في
النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري، ط1، مطبعة النجاح الجديدة،
الدار البيضاء، المغرب، 1999.
التعليقات على الموضوع