محاضرة الرحلات الاستكشافية في موريتانيا
أولا / دوافع الرحلات الاستكشافية الفرنسية
فور انتهاء الحروب النابليونية استأنف الفرنسيون مهماتهم الاستطلاعية نحو القارة الإفريقية، التي غدت تستحوذ على المزيد من اهتمامات الأوربيين في مجال الاكتشافات الجغرافية. ولئن كانت مناطق أحواض الأنهار )النيل، الكونغو، النيجر، السنغال...إلخ(
قد استقطبت، في البداية، جل اهتمامات المستكشفين والرحالين الأوربيين، فإن المناطق الداخلية الإفريقية، حظيت بدورها بدرجة لا بأس بها من حركة الاكتشافات تلك وخاصة منها الفرنسية.
ويمكن تقسيم دواعي وأسباب هذه الرحلات إلى نوعين أساسيين يتعلق أولهما
بالرحالين والمستكشفين أنفسهم بينما يرتبط الثاني بالتطورات الحاصلة في أوربا.
1 .الدوافع المتعلقة بالرحالين والمستكشفين:
اختلفت دواعي وأهداف الرحلات باختلاف أصحابها والجهات التي تقف وراءهم.
فمن بين الرحالين من كانت تدفعه المغامرة نحو ارتياد المجهول واكتشاف الغري والخروج على المألوف، ومنهم من كان يحركه البحث عن مصادر الثروة والمال ويدفعه السعي إلى تحصيل المكاس المادية من وراء المتاجرة أو للحصول على جائزة معينة.
ومن بين المستكشفين والرحالين كذلك من حدته دواع دينية واضعا على عاتقه مهمة التبشير بعقيدته عبر المزيد من البقاع المكتشفة، ومنهم من كان يقوده الفضول المعرفيوخدمة العلوم والجغرافيا إلى محاولة ملء الفراغات التي كانت إذ ذاك تميز المناطق الداخلية من القارة الإفريقية. ومن بينهم أخيرا من كانت تغريه نزعة سياسية استعمارية فيسعى إلى ارتياد مناطق جديدة خدمة لتجارة بلده أو سعيا إلى جمع المعلومات المختلفة عن المناطق المزورة تمهيدا للسيطرة عليها وإخضاعها وتطبيقا للقولة الشهيرة "تج معرفة الناس للسيطرة عليهم وقيادتهم".
وانطلاقا من الأهداف والدواعي العامة السابقة الذكر، فإننا نجد من بين المستكشفين والرحالين رجال علم ودين وطوافين من هواة الأسفار والارتحال وآخرين استهوتهم المغامرة ودفعتهم المخاطرة ساعين إلى إماطة اللثام عن أحوال السكان والبلدان.
وتنطبق هذه الأهداف العامة على المستكشفين والرحالين الأوربيين الذين "تركزت معظم مجهوداتهم في القرن الماضي ]التاسع عشر[ على القارة الإفريقية انطلاقا من محاور اهتمامات مختلفة كإشباع الفضول العلمي والتبشير الديني ومكافحة العبودية والغزو والاستعمار.
ونجد من بين هؤلاء المستكشف المحترف، وهو ذلك الذي يتبنى الترحال هواية ويقوم بعدة رحلات كبرى فيستحق بذلك أن يسمى رحالة. كما نجد منهم المسكتشف بالصدفة وهو الذي يأتي للاستكشافات صدفة كالناجي من تحطم سفينة أو الواقع في الأسر أو المأمور من طرف قائده العسكري أو مسؤوله الإداري بالقيام باكتشاف منطقة ما. وكثيرا ما تكون الاكتشافات "المأمورية" مخصصة لخدمة أغراض تجارية أو سياسية.
وتنطبق الأهداف السابقة على المستكشفين الفرنسيين بمن فيهم أولئك الذين توجهوا نحو بلاد البيضان في القرن التاسع عشر والذين أحصينا منهم تسعة عشر(19) فردا من مدنيين مغامرين ومستخدمين تجاريين وضباط عسكريين وعلماء متخصصين.
ويمكن تصنيف هذه الجماعة إلى مستكشفين متمرسين )مدنيين وعسكريين(، وقد سميناهم "رحالين محترفين" لامتهانهم الترحال وحبهم الأسفار، ولأنهم قاموا بعدة رحلات من ضمنها على الأقل واحدة مهمة. وتضم هذه الفئة من المدنيين كلا من موليين ) Mollien (، كايي ) Caillié (، رافنل ) Raffenel (، باني ) Panet (، ابن المقداد( Bou El Mogdad (، دولس ) Douls (، صوليى ) Soleillet (، بلانشي ) Blanchet ،)كروفل ) Gruvel ( وشودو . Chudeau .)
أما من العسكريين فلا تضم سوى الضابط البحري ماج ) Mage (، ذلك أن هذا الضابط، بالإضافة إلى رحلته عبر أرض البيضان الموريتانية، قد قام كذلك برحلة طويلة داخل السودان الغربي نشرت سنة 6111 تحت عنوان "رحلة إلى السودان الغربي )السنغامبيا النيجر("
(17)
أما الفئة الثانية فقد اعتبرنا أصحابها مجرد "مستكشفين" لأنهم اقتصروا على القيام بمهمات استكشافية محدودة لم ينجزوا أثناءها رحلة طويلة، ولأنهم جاءوا إلى الاستكشاف مأمورين لا محترفين.
ويندرج ضمن فئة المستكشفين هذه من العسكريين كل من كا ي ) Caille (، فلكران
( Fulcrand (، فينصان ) Vincent (، بورل ) Bourrel ( وعلي صل ) Alioune Sall (، ومن المدنيين كل من صولير ) Soller (، دوني ) Donnet ( وفابير ) Fabert ) (18) .
وإذا كانت المغامرة وارتياد المجهول والبحث عن الثراء واللجوء إلى ما وراء البحار فرارا من الحياة الروتينية في أوربا، عوامل تخص الرحالين والمستكشفين أنفسهم، فإن أسبابا تتعلق بالأوضاع العامة في أوربا بشكل عام وفي فرنسا بشكل خاص، قد تضافرت لتدعم العوامل السابقة الذكر مشجعة الرحلات الاستكشافية.
. الدوافع المتصلة بالتطورات في أوربا
لقد كان للثورة الصناعية دور كبير في هذه الأسباب التي يمكن اعتبار أكثرها صلة بموضوعنا تلك المتعلقة بتطور وسائل النقل والمواصلات وتحسن تقنيات النشر والطباعة وظهور الجمعيات الجغرافية واستفحال حركة التوسع الاستعماري.
أ. تطور وسائل النقل والمواصلات
لقد مثل استخدام الطاقة البخارية في تحريك آلات المصانع وفي تسيير القاطرات والسفن إنجازا كبيرا من إنجازات الثورة الصناعية. وقد شجع هذا التطور على مد آلاف الكيلومترات من السكك الحديدية محدثا قفزة كبرى في مجال المواصلات البرية.
ولم تبق المواصلات البحرية بمنأى عن هذه التطورات، إذ أن توليد الطاقة البخارية كان قد مكن من استخدامها في مجال تسيير السفن والبواخر وفي صناعتها أيضا.
فعرفت المواصلات البحرية وثبة لا تقل أهمية عما عرفته المواصلات البرية. وتطورت تقنيات ووسائل صناعة السفن حيث رأت النور سفن وبواخر تسير بالقوة البخارية وتتسع لآلاف المسافرين وباستطاعتها نقل عشرات آلاف الأطنان.
كما أن استخدام الطاقة البخارية المتولدة من الفحم والطاقة الكهربائية المتولدة من البترول شجع تطور الصناعات الحديدية فبدأ الحديد يحل تدريجيا محل الخش في صناعة السفن. وأخذت السفن الجديدة، وهي أكثر مقدرة على مواجهة الكوارث المناخية، تحل محل السفن الشراعية، فبات الربط بين مختلف أنحاء المعمورة يتم بصورة أكثر سرعة وفي ظروف أكثر أمانا.
وكان من الطبيعي أن يساهم تطور وسائل النقل في أوربا وشيوع انتشار الآلة البخارية وكذلك استخدام الكهرباء والبترول ومشتقاته واختراع المحرك ذي الاحتراق الداخلي في تشجيع وتسهيل حركة الكشوفات الجغرافية وبالتالي الرحلات الاستكشافية.
ب. الطباعة
ومن التطورات الناجمة عن الثورة الصناعية أيضا ما يرتبط بوسائل وتقنيات الطباعة والنشر، إذ انتشرت المطابع وأدخلت تحسينات تقنية مهمة على الطباعة. كما تطورت صناعة الورق والحبر. وقد أدى كل ذلك إلى تخفيض تكاليف الطباعة وانتشارها مما سهل وسرع نشر الكتب والجرائد والمجلات.
وقد سارعت البورجوازية بتقديم الدعم للمؤلفين والأدباء مشجعة نشر وتعميم أفكارهم الداعية إلى التجديد والتغيير لأن ذلك يتطابق وفلسفة تلك الطبقة وطموحاتها، وهي طبقة صاعدة تسعى إلى تبوؤ المكانة التي يخولها لها امتلاك ناصية العلم والسيطرة على الموارد الاقتصادية.
وقد استفادت كتابات الرحالين والمستكشفين من هذه الوضعية، فتم الإسراع بنشرها لتتلقفها الأيدي وتتداولها بسرعة مما منحها شعبية كبيرة وربط بالتالي الرأي العام الغربي بالمستكشفين والرحالين. ولعل من الدال في هذا السياق أن نذكر بأن رحلة
موليين سنتي 1818-1819 تم نشرها في السنة الموالية . ثم نشرت للمرة الثانية سنة
1822 . كما أن رحلة كايى عبر الصحراء التي استمرت من 1824 إلى 1828 قد نشرت
سنة 1830 ؛ وكذلك الشأن تقريبا بالنسبة لمختلف الرحلات والتقارير الاستكشافية، فهي إما أن تنشر في شكل مؤلف مطبو أو في إحدى المجلات المتخصصة التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر وتضاعفت على الخصوص في النصف الثاني من ذلك القرن، وذلك بتشجيع ودعم من الجمعيات الجغرافية.
ج. الجمعيات الجغرافية
بدأت هذه المؤسسات في الظهور خاصة منذ النصف الأول من القرن التاسع
عشر، وكما يتضح من تسمياتها فإن هذه الجمعيات التي أسسها بعض العلماء والباحثين والساسة كانت تهتم في المقام الأول بالدراسات و الكشوفات الجغرافية عبر مختلف بقاع المعمورة وذلك حسبما يقال لملء الفراغات الموجودة حتى ذلك الحين خاصة في العديد من المناطق الإفريقية الداخلية.
وبعد هزيمة فرنسا سنة 1871 في حربها مع ألمانيا، يبدو أن استيقاظ الشعور القومي قد ولد موجة جديدة من الجمعيات الجغرافية في مختلف المدن الفرنسية. وكان لظهور الجمعيات الجغرافية المختلفة، دوره في دفع حركة الكشوفات الجغرافية تلك. فقد اضطلعت هذه الجمعيات بدور كبير حيث دعمت واحتضنت المستكشفين والرحالين، وبالذات أولئك المستكشفين المحتملين وهم الشباب المولعون بالرحلات والأسفار.
وقد تمثل ذلك الدعم والاحتضان في تقديم التمويلات اللازمة لبعض المستكشفين والرحالين وفي تخصيص بعض الجوائز المالية لمن يسبق إلى اكتشاف منطقة ما ، هذا فضلا عن تزويد الرحالين والمستكشفين بالتوجيهات والإرشادات اللازمة وبالأدوات العلمية الضرورية.
وقد أسهمت هذه الجمعيات إسهاما فعالا، طوال القرن التاسع عشر، في تغطية أنباء الكشوفات الجغرافية فباتت تقارير ورحلات وأنباء المستكشفين تصل القراء في فرنسا فور انتهاء الرحلة. وهكذا لم يكد الرحالة ليوبولد باني مثلا ينهي رحلته بين السنغال والمغرب عبر الأراضي الموريتانية سنة 1850 ويقضي أربعة أشهر في فرنسا حتى نشرت المجلة البحرية نص رحلته تلك 4)(2 . وبالطبع فإن ما انطبق على باني ينطبق
على غيره من المستكشفين. فرحلة الضابط ماج إلى منطقة تكانت التي انتهت سنة 1860 وكذلك الشأن بالنسبة لرحلتي بورل و فينصان وغالبية الرحالين والمستكشفين الآخرين.
وكانت هذه الجمعيات الجغرافية تتلقف تقارير ورحلات المستكشفين وتسارع إلى نشرها في المجلات المتخصصة التي كانت تصدر في ذلك الوقت.
د. المجلات
ليس من الغري أن يتصادف مجيء الرحالتين موليين وكايى إلى المنطقة مع صدور إحدى أهم تلك المجلات وهي "حوليات الرحلات ، لكن أهم تلك المجلات تبقى "مجلة الجمعية الجغرافية الباريسية"
التي بدأت الظهور بعد ذلك بقليل سنة1821
وفي بداية العقد السادس من القرن، وهي الفترة التي تعتبر مرحلة القفزة النوعية في تاريخ الاكتشافات الفرنسية بالمنطقة )مرحلة القفزة المنسقة 1859-1862 (، برزت إلى الوجود مجلتان لا يقل دورهما، في هذا المجال، عن دور المجلتين السابقتين الذكر.
وهاتان المجلتان هما "حول العالم" و"المجلة الجغرافية" .
كما لا يقل شأن "المجلة الاستعمارية"
عن شأن المجلات السالفة الذكر. وكانت تلك المجلة قد بدأت في الظهور منذ سنة 1843 وأخذت تسميات متعددة على مدار القرن فأصبحت تدعى "المجلة الجزائرية الاستعمارية بين 1859-1861 فالمجلة البحرية الاستعمارية" بين سنتي 1860 و 1861 ثم "المجلة البحرية" سنة 1896
وقد أصدرت غالبية الجمعيات الجغرافية مجلات خاصة بها على غرار مجلة الجمعية الجغرافية الباريسية.
وقد أسهمت مختلف هذه النشريات، بدورها، في تغطية وتشجيع حركة الاكتشافات التي أصبحت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر مسألة تسابق مع الزمن بغية بسط السيطرة الاستعمارية على المنطقة.
ه. التوسع الاستعماري
ومن أهداف الرحلات الاستكشافية الفرنسية خاصة أثناء النصف الثاني من القرن التاسع عشر يمكن أن نذكر دراسة السكان والمكان وجمع مختلف المعلومات عن المنطقة خدمة للسياسة الاستعمارية التي انتهجتها فرنسا في ذلك الحين. وهي السياسة الطامحة إلى السيطرة على البلاد الموريتانية بغية ربط المستعمرات الفرنسية جنوب وشمال هذه المنطقة )الجزائر والسنغال(.
فدراسة السكان استهدفت سبر أغوار المجتمع البيضاني لمعرفة مكوناته ونقاط ضعفه بحثا عن منفذ يمكن الفرنسيين من النفاذ إلى نقاط الضعف تلك لتفكيك هذا المجتمع من الداخل ولإبعاد أية مقاومة من شأنها أن تواجه بجدية مشاريع إخضاع البلاد للاستعمار الفرنسي.
وفي هذا النطاق عزف الفرنسيون على وتيرة الصراعات العرقية مقسمين البيضان إلى عرب وبربر .
ومعلوم أن فرنسا قد تبنت، منذ احتلالها للجزائر، سياسة مبنية على اختلاق صراع عرقي بين البربر والعرب، وهي السياسة التي تعرض الجابري لها بالتحليل في بحث رصين تناول أبعادها ونتائجها في المغرب الأقصى من خلال ما يعرف ب"الظهير البربري".
وقد بالغ الفرنسيون في التركيز على تفكك المجتمع البيضاني والاضطرا السائد داخله وعجز الأمراء وشيوخ القبائل عن توفير الأمن والاستقرار; كل ذلك خدمة لتهيئة الرأي العام الفرنسي وإقناعه بقبول الإقدام على عملية غزو البلاد وتحمل ما قد يتطلبه ذلك من الخسائر البشرية والمادية.
أما دراسة المكان فقد سعت، في المقام الأول، إلى جمع ما يمكن جمعه من معلومات عن الطرق والمسالك والمواقع الاستراتيجية لتمركز ومرابطة الوحدات العسكرية الفرنسية في المستقبل. ويرتبط بهذه المسألة التنقي عن المياه وتحديد مواقعها نظرا لدورها في تموين أية بعثة أو فرقة عسكرية تنوي عبور المجال البيضاني. واهتمت هذه الدراسة كذلك بالموارد الاقتصادية للمنطقة وخاصة ثرواتها المعدنية المحتملة.
ويدخل في نطاق الرحلات الاستكشافية ذات المرامي الاستعمارية محاولات الفرنسيين عبور المجال البيضاني، ليس فقط للربط بين السنغال والجزائر سعيا إلى تعزيز الوجود الاستعماري الفرنسي، وإنما كذلك إلى مواجهة محاولات التوسع الإنجليزية والإسبانية والألمانية في المنطقة.
وإذا كانت هذه العوامل المختلفة قد شجعت ودفعت حركة الاستكشاف تلك، فإن ذلك لا يلغي الصعاب والعراقيل التي واجهها أولئك المستكشفون وهم يجوبون مناطق يشكل الدين والتاريخ، فضلا عن الجغرافيا، حواجز منيعة تفصلهم عن أرضها وسكانها.
ثانيا / العراقيل
تنوعت العراقيل والعقبات التي اعترضت الرحالين الفرنسيين وهم يحاولون النفاذ إلى عمق المجال البيضاني. ومن تلك العراقيل ما هو طبيعي مرتبط بالموقع وبمعالم سطح الأرض الموريتانية وتكويناتها، ومنها ما هو سوسيو/ثقافي متأت من طبيعة المجتمع البيضاني نفسه.
1 العوائق الطبيعية
تكاد المنطقة تكون محمية من الناحية الطبيعية. وكما يقول أيدو ) Eydoux ( فإن
سواحلها الأطلسية القاحلة وغير المضيافة كانت على مر العصور مقبرة للبواخر"
. فكم من سفينة جنحت وتحطمت على هذه السواحل فهلك ركابها أو وقعوا في أسر القبائل البيضانية، فهذه السواحل مثلت دور الحارس الأمين للمنطقة من جهة الغرب .
وقد ظل الأوروبيون حتى القرن الخامس عشر يخشون المخاطرة في هذه السواحل التي تمتاز بقوة التيارات المائية وقلة الأماكن الملائمة لرسو السفن، إذ يذكر فرنانديس( Fernandes مخاوف الملاحين البرتغاليين والإسبان من اجتياز رأس بجدور، لأن من اجتازه لن يعود، فقد كانوا يعتقدون "أنه لا يوجد بشر ولا مكان مأهول ولا أشجار ولا أعشاب خضراء وراء هذا الرأس" .
ويشير كات الحوليات البرتغالي هذا إلى "أن التيارات المائية قوية إلى درجة أن أي سفينة مرت من هناك ]تجاوزت رأس بجدور جنوبا[ لن تتمكن من العودة".
أما اختراق الصحراء الكبرى من الشمال فتصاحبه من جان ثان صعوبات طبيعية أهمها ندرة )إن لم يكن انعدام( المياه وقساوة المناخ حيث ترتفع درجة الحرارة لتصل حدا لا يستطيع الأوربيون تحمله إلا بشق الأنفس، إذ تتجاوز درجة الخمسين في بعض الأحيان. هذا فضلا عن عزلة المناطق الداخلية وبعدها وصعوبة التنقل عبر المنطقة لانعدام الطرق الآمنة والمعروفة.
وطبيعي أن يكون هذا المناخ وبالا على المستكشفين الأوربيين، ذلك "أن رياح السموم التي تهب في إفريقيا وصحاريها القاحلة حيث لا ماء ولا مرعى، والعواصف الهوجاء ]تهب معظم فصول السنة[ قد أهلكت معظم الرحالين الذين حاولوا اجتياز هذه القارة . ومن هنا فإن "الصحراء كما يقال تفترس من لا تعرفه، وإذا حاول الأوربيون النفاذ إلى داخل الصحراء الكبرى عن طريق الأنهار السنغال، النيجر، الكونغو ...إلخ.( فإن عوامل طبيعية أخرى تقف لهم بالمرصاد.
فأحواض تلك الأنهار ملأى بالبرك القذرة والمياه الملوثة وبالتالي بالحشرات الضارة والجراثيم والميكروبات التي تسب أمراضا قاتلة كحمى الملاريا والحمى الصفراء والإسهال...إلخ. فالحمى وحدها عرقلت الاكتشافات في إفريقيا أكثر مما عرقلتها السيول العارمة والحيوانات المفترسة والنبال المسمومة. ويكفي أن نعرف أن نسبة 11% من مرافقي الرحالة الاسكوتلاندي مانغو بارك ( Mungo Park ( هلكوا متأثرين بالحمى قبل الوصول إلى نهر النيجر .
وقد ظلت الحمى حتى منتصف القرن التاسع عشر تفتك بالأوربيين كلما سولت لهم أنفسهم التوغل في إفريقيا، ولن تكف القارة السوداء عن أن تكون "مقبرة للرجل الأبيض" إلا في سنة 1854 حينما استخدم الدكتور وليام بالفور بايكى ) William Balfour Baikie ( الكينين للمرة الأولى أثناء رحلته إلى النيجر.
لذلك يجزم الرحالة موليين في مقدمة رحلته بأن المناخ هو ألد عدو يواجه زائر المناطق الإفريقية الداخلية .
ولم يكن المستكشفون الغربيون عرضة لمواجهة الظروف الطبيعية القاسية فقط، بل إن التعامل مع السكان المحليين كان، في بعض الأحيان، أدهى وأمر، ذلك أن الرجل الأبيض لم يكن أبدا محل ترحي هؤلاء السكان بحكم التمايز الاجتماعي والثقافي الواضح.
2-العوائق السوسيوثقافية
تضافرت جملة من العوامل الثقافية والبشرية بعضها يتصل بالدين والبعض الآخر باللغة. وقد مثلت هذه العوائق حواجز ساهمت في غلق المناطق الداخلية الإفريقية أمام التوغل الأوربي. "فالإفريقيون كانوا دائما يخشون الاتصال بالأوربيين الذين لا يمثلون في نظر الأفارقة ]كما يقول ماجو: Mageau [ سوى تجار سيستغلونهم وصيادي بشر سيبيعونهم. ومع الأسف ]يضيف هذا الفرنسي[ فقد كان لتخوفاتهم تلك ما يبررها .
ومما زاد الأمر تعقيدا بالنسبة للتوغل الأوربي داخل الصحراء الإفريقية "كون هذه المنطقة محاطة من جميع الجهات ببلدان اعتنقت شعوبها الإسلام ومن منطلق التزمت الرحلات الاستكشافية الفرنسية في الصحراء الكبرى )الدوافع والعراقيل(.
والخوف من الغزاة واجهت تلك الشعوب الأوربيين ممثلة عقبات كأداء لم تمكن إزاحتها إلا باستخدام العنف .
ويدعم كافارل ) Gaffarel ( هذا الرأى مؤكدا "أن هذا الحقد ]حقد الأفارقة على الأوربيين[ نما أيضا مع انتشار الإسلام في إفريقيا. فهذا الإسلام مثل بالفعل وما يزال يمثل في الوقت الراهن ] 1905 [ سدا منيعا أمام إدخال الحضارة الأوربية إلى القارة السمراء.
ولعل هذا ما جعل جل الأوربيين الذين يحاولون دخول المنطقة يتظاهورن باعتناق الإسلام وبالانتماء إلى أصول شرقية مخافة التعرض للتهلكة.
ومع ذلك فإن اكتشاف الصحراء كلف أوربا نسبة مرتفعة من الخسائر البشرية الناجمة عن مقاومة السكان، إذ أن "حوالي نصف الرحالين الكبار الذين حاولوا استكشاف تلك الصحراء قد اغتيلوا على أيدي السكان المحليين" .
وفضلا عن الحواجز الطبيعية والدينية فقد مثلت اللغة بدورها عقبة أمام المستكشفين الفرنسيين الذين يجهلون في غالبيتهم العظمى اللغة العربية، مما جعل تفاهمهم مع السكان البيضان مسألة مستعصية. ولم تسلم محاولات تجاوز هذا الحاجز )عن طريق اكتتاب مترجمين من السود( من الكثير من التعثر، ذلك أن أكثرية أولئك المترجمين لم تكن تتقن العربية في أي مستوى من مستوياتها، بل إن بعضهم لا يجيد الفرنسية ذاتها .
ولتذليل هذه العراقيل حاول الفرنسيون أحيانا التكيف مع الخصائص المحلية للبيضان. فهذا البارون روجي ( le Baron J.François Roger ( الوالي الفرنسي على السنغال يقترح إرسال كل من رني كايى وليوبولد باني إلى بلاد البيضان لتعلم العربية والتقاليد المحلية قبل. القيام برحلتيهما عبر الصحراء الكبرى.
كما أن الجنرال فيدر ( Faidherbe ( الوالي الفرنسي على السنغال اختار من بين مستطلعيه عبر المجال البيضاني ابن المقداد وعليا صل وهما سنغاليان مسلمان؛ فهل يعني ذلك أن فكرة الاستعمار الجديد قد انبثقت من مرحلة استكشاف ما وراء البحار وأن الأوروبي قد توصل منذ الرحالين الأوائل إلى ضرورة تغيير جلده حتى يتمكن من البقاء في المستعمرات.
التعليقات على الموضوع