التأويل و السرد في فكر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور
التأويل و السرد في فكر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور :
- يُعد "ريكور" أحد أكبر فلاسفة القرن العشرين من ممثلي التيار التأويلي. والتأويل هو إعطاء معنى لحدث أو قول أو نص لا يبدو فيه المعنى واضحاً. وعادةً نقول "تأويل الخبر" "تأويل الرؤيا" بمعنى تفسير الخبر وتوضيح ماهو غامض منه. وقد اشتغل ريكور في هذا الحقل التأويلي ، كما تشهد على ذلك مؤلفاته. كما اهتم أيضاً بالألسنية بعد أن تأثر كثيراً بالعالم اللغوي "فرديناد دو سوسير".
- شدد ريكور على ضرورة العمل ، وعلى أن ننظر للإنسان وهو يعمل ، وهنا يتعارض مع واحد من كبار الفلاسفة الألمان وهو "مارتن هايدغر" الذي كان معاصراً له ، فلقد شهد هايدغر على الهم والقلق الوجودي ، في حين شدد ريكور على العمل بقوله : "حين تأخذ الإنسان كعمل ماذا نرى ؟ نرى أولاً أنه قادر على أن يتكلم مع الآخر ويقيم الحوار معه. ثم بعد ذلك نراه يروي قصة حياته. وأنا حين أتكلم فإنني أفتح الحوار مع الآخر ، وأشعر و أؤكد بوجود الأنا على الرغم من وجود تحفظات حولها. إذن هناك قصة حياة لا يستطيع الفرد أن يجد هويته ويحددها إلا من خلال طريقة سرده لنفسه". واستناداً إلى ذلك ، دافع ريكور عن "الهوية السردية" ، حيث يرى أن "الناس والمجتمعات تُحدد قبل كل شيء عن طريق سردها لنفسها. فالحياة لا تكتسب وجودها إلا من خلال طريقتها في سرد ذاتها". من هنا كان ريكور مهووساً بالفكرة القائلة : "إن الحياة المعيشة يمكن أن تماثل الحياة المسرودة". وقد كان لديه إيمان شديد بقول الحقيقة بكل شفافية ، لأن فكرة التكتم بحسب رأيه هي أثر من آثار نفاق البرجوازية ، ولِم الاحتفاظ بالأسرار ؟ لذا كانت مهمته هي سبر ما تحت السطح للوصول إلى أعماق التجربة بغية إيصال الحقائق المجردة إلى قرائه. بمعنى ينبغي على الشفافية أن تكون بديلاً عن السرّية. ومن هنا بدا ريكور منفتحاً على كل ماهو خارج الفلسفة من لاهوت وسياسة وأدب وفن وعلوم بعد أن جعل الفلسفة في حوارية دائمة مع ذلك الخارج ، من دون أن يهمل حوارها مع تاريخها الخاص ومع ذاتها. وعلى هذا النحو لم تكن مسيرته الفلسفية منفصِلة تماماً عن مسيرته الشخصية التي عاشها بذاته.
- في عام ١٩٦٩ نشر ريكور كتابه "صراع التأويلات" وفيه يؤكد أن الأهمية ليست للكلمة في حد ذاتها ، ولكن للاختلافات و التعارضات التي نعيها مع الكلمات الأخرى. والتأويلية بحسب ريكور تقوم على وجود معنيين مختلفين في كل نص ، وهما المعنى الظاهر ، والمعنى الخفي. في عام ١٩٧٥ نشر كتابه "الاستعارة الحية" حيث نجد أن دراسة مجازات الحياة ليست أقل غنى من دراسة حقائقها. في عام ١٩٧٦ صدر له كتاب "الخطاب و فائض المعنى". وفي عام ١٩٨٣ صدر له "الزمان و السرد". وفي عام ١٩٩٠ صدر له كتاب "الذات عينها كآخر" ، وفيه تلخيص لفلسفة ريكور الأخلاقية والسياسية كلها. ماذا يعني "الذات عينها كآخر" ؟ ، يجيب ريكور : "إنني أنا مهما بلغت من العلم ومهما بلغت من الحضارة ومن التقدم ومن العلم ، فأنا لا أستطيع القول إني موجود إلا إذا تواضعت وعرفت أن الآخر هو جزء مني ومن كياني ، بحيث تصبح الذات هي الآخر ، وليس هناك من آخر دون هذه الذات ، والكاف هنا للتشبيه في البداية ، ولكنها في النهاية لا تعود للتشبيه ، بل تصبح الذات هي الآخر الذي لا يمكن أن نغيّبه ، وليس هناك من آخر من دون هذه الذات.
- ريكور رجل التأويل والسرد بلا منازع ، والسبب في ذلك يعود إلى أن أفكاره لم تكن تتبع خطاً واحداً ، لأن الخط الواحد لا يمكن له أن يفهم الأمور من كل جوانبها. والتأويل بالنسبة له يقوم على أساس وجود معنيين مختلفين في كل نص أو رموز ثقافية : الظاهر والخفي ، ولابد من نزع القناع عن الرموز و كشف القوى التي تختبئ وراءها ، وهذا يتخذ طريقاً طويلاً يمر عبر إشارات الظواهرية والفلسفة التحليلية. وهنا يكون دور التأويل مقتصراً على تفسير الكلام. أما السرد فيتمحور حول الإنسان القادر على أن يقيم الحوار مع الآخر ومن ثم يروي قصة حياته ، وبالتالي يجيد سياق الحديث. فالفرد لا يستطيع أن يجد هويته إن لم يستطع أن يتشكل داخل ما يرويه ، وهذا صحيح على صعيد الفرد ، كما هو صحيح على صعيد الجماعة وصعيد الأمم.
___________________
صراع التأويلات ، بول ريكور ، ترجمة فؤاد مليت وعمر مهيبل ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، ٢٠٠٦.
مجلة المعرفة السورية العدد ٦٤٠ ، منشورات وزارة الثقافة ، ٢٠١٧.
#أنصار_الفلسفة
التعليقات على الموضوع