كتابة التاريخ وصفات المؤرخ
المحاضرة كتابة التاريخ وصفات المؤرخ
تحاول
هذه الورقة التطرق الى تعريف التاريخ وأهم صفات المؤرخ الموضوعي، لتمكن القارئ من معرفة
ما هي الخصائص التي تمنح أحدًا أو حدثًا دون آخر حق كتابة التاريخ.
تعريف التاريخ: لغة:
تعدَّدتْ
آراء العلماء في تعريف التاريخ لغةً واشتقاق كلمته، إلا أنها اتفقت على أنه "الإعلام
بالوقتِ"؛ يُقال: أرَّخ الكتابَ وورَّخه؛ أي: بين وقت كتابته، وقيل أن كلمة التاريخ
في تعريف التاريخ لغة معرَّبة من الكلمة الفارسيَّة ماه روز، وماه القمر، وروز اليوم،
وكأنَّ الليل والنهار طرفه، وقيل: إنَّ كلمة تاريخ في تعريف التاريخ مشتقة من ياريخ
العبريَّة ومعناها القمر، ويرخ ومعناها الشهر، وقيل: إنَّ تاريخ مشتق من اللفظ الآكدي
أرخو، وقيل أنه كلمة تاريخ مأخوذة عن عرب اليمن؛ لأنَّهم اهتمُّوا بالتوقيت؛ لعدَّة
أسباب، منها الزراعة، التي تخضع لتقلُّباتِ الجو ولتبدُّل المواسم، ومنها الأعياد والشعائر
الدينيَّة، التي ارتبطت بضبط الأوقات، ومنها التجارة في البرِّ والبحر. والدليل على
صدق هذا الاحتمال بما قاله الحافظ السخاوي: "إنَّ أوَّل من أرَّخ يعلى بن أميَّة،
وذلك أنَّه كتب إلى عمر بن الخطاب كتابًا من اليمن مؤرَّخًا، فاستحسَنَه عمر".
ولفظ
التاريخ أصيل في اللغة العربيَّة، وليس منقولًا إليها من لغاتٍ أخرى؛ فلو كان معرَّبًا
ما اختُلف حول أصل اشتقاقه بين قبائل الجزيرة العربية: أهو مِن أرَّخ أو مِن ورَّخ،
ولما فرَّق الأصمعيُّ بين لغة تميم وقيس، بقوله: "بنو تميم يقولون: "ورَّخت
الكتاب توريخًا"، وقيسٌ تقول: "أرَّخته تأريخًا""، وهذا الاختلاف
يؤكِّد أنّ لفظ التاريخ عربيّ. على الرغم من أنّ كلمة "تاريخ" لم ترد فيما
وصل إلى الوقت الحاضر من الشعر الجاهليِّ، كما أنَّها لم ترد في كتاب الله عز وجل،
ولا في حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-.
أما
تعريف التاريخ اصطلاحًا:
فهو فهم الماضي؛ لإفادة الحاضر، والتخطيط للمستقبل، وقد عبَّر السخاوي عن هذا المعنى
بقوله: "إنَّه فنٌّ يُبحث فيه عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيف؛ بل عمَّا
كانَ في العالم". كما ورد في تعريف التاريخ عند ابن خلدون بأنه: "خبرٌ عن
الاجتماع الإنسانيِّ الذي هو عُمْران العالم، وما يَعرِض لذلك العمرانِ من الأحوال؛
مثل التوحُّش والتآنس، والعصبيَّات، وأصناف التقلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ
عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعايش،
والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران من الأحوال"، كما أضاف في تعريف
التاريخ بأنه "في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيَّام والدول، والسوابق من القرون
الأُوَل، تنمو فيها الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتؤدِّي إلينا شأن الخليقة كيف تقلَّبت
بها الأحوال، واتَّسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمَّروا في الأرض حتَّى نادى بهم
الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق،
وعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق".
تعريف التاريخ عند ابن خلدون: يُعرِّف ابن خلدون التاريخ بأنَّه في حقيقة أمره نظرٌ وتحقيقٌ؛
وتأمُّل ودراسة وفحص لمختلف أوجه النشاط البشريِّ فيما مضى من العصور؛ لرصد أسباب الظواهر
التاريخيَّة المختلفة، ولكشف جوانب العلاقة السببيَّة في طيَّات الأحداث التاريخيَّة،
ورصد بدايات الأحداث ومعرفة أصولها. بعد تعريف التاريخ يخلص ابن خلدون إلى أنَّ التاريخ
أصيلٌ في الحكمة وعريقٌ، ولما كانتْ الحكمة أسمى مراتب المعرفة، وبالتالي فإن فهم التاريخ
ضرورةً حضاريَّةً لفهم الإنسان من خلال تاريخه، فما الحكمة سوى المرتبة العليا في مجال
المعرفة، والمعرفة الحقة هي معرفة الإنسان بذاته.
ومن
تعريف التاريخ عند ابن خلدون، يظهر بأنه أداة للكشف عن صراعات المجتمعات البشريَّة،
وما يترتَّب عليها من قيام الدول المختلفة ونشوء مرابتها. ومن خلال تعريف التاريخ عند
ابن خلدون يتّضح أنه أدْرَك أهميَّة البيئة في صياغة التاريخ باعتبارها مسرحًا له،
وبالتالي يُعدّ التاريخ استكشافًا كُليًّا لتطوُّر أحوال البشريَّة منذ بداية الخليقة،
ومحاولةً لحلِّ اللغز المتعلِّق بالوجود البشري في الكون، فضلًا عن مصير الإنسان في
الحاضر والمستقبل. ومن خلال تعريف التاريخ هذا، يتّضح أنه علمٌ يتعلَّق بالمكان والزمان
بما فيه من وقائعَ وأحداث، وما يكون لها من أثرٍ في حياة الناس.
أهمية التاريخ وصفات المؤرخ:
تكمن أهمية التاريخ من خلال تعريف التاريخ، بأنه مهم لدراسة نشأة الكون والأرض وما
ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة، والمؤرخ كما المصور؛ يعمد إلى تشريح جسم الإنسان
أو الحيوان بعرض تواريخ الشعوب والأمم والحضارات المختلفة منذ نشأتها حتى العصر الحديث،
معبرًا بذلك عن وحدة البشرية على الرغم من جزيئات تواريخها وتفصيلاتها . كما تكمن أهميته
في أنه مرآة أو سجل شامل يقدم ألوانًا من الأحداث، وفنونًا من الأفكار وصنوفًا من الأعمال
والآثار. ويمكن معرفة أهمية من تعريف التاريخ نفسه، إذ يمثل ثمرة الخلق كله منذ زمن
بعيدة، ومعرفة الماضي تكسب الفرد خبرة السنين الطويلة، والتأمل في الماضي يبصر الإنسان
في ذاته. فيكون أقدر على فهم نفسه، وأقدر على حسن التصرف في الحاضر والمستقبل.
أمّا
صفات المؤرخ الناجح، فعليه أن يكون عالمًا محبًا للدرس، ذا جلد، وصبوراً فلا تمنعه
وعورة البحث، والمصاعب، والعقبات عن مواصلة العمل ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه
عن عمله غموض الوقائع واختلاطها واضطرابها. كما عليه أن يتصف بالأمانة والشجاعة والإخلاص،
فلا يكذب ولا ينتحل ولا ينافق أصحاب الجاه والسلطان ولا يخفي الوقائع والحقائق التي
قد لا يعرفها غيره. كما عليه أن يمتلك ملكة النقد؛ فلا يقبل كل كلام أو يصدق كل وثيقة
أو مصدر بغير تفنيد وتمحيص واستقراء، فيأخذ الصدق أو ما قارب الحقيقة. وعليه أن يبتعد
عن حب الشهرة والظهور، والاحتفال بالكسب والألقاب والجاه والمنصب، وأن يكرس نفسه لعمله
العلمي في صمت وسكون.
وعلى
المؤرخ أن يتصف بالترتيب، وأن يكون ذا عقل واع ومرتب ومنظم؛ لكي يميز بجلاء بين الحوادث،
وينسق الحقائق ويحدد العلاقة بين حوادث التاريخ في الزمان والمكان، ويربطها في اتساق
وتوافق. ومن أهم الصفات التي يجب أن يتصف بها الموضوعية وعدم التحيز والتحرر من الميل
أو الإعجاب أو الكراهية لعصر خاص أو ناحية تاريخية معينة أو لشخص بعينه. كما عليه أن
يكون ذا ذوق رفيع وصاحب إحساس وعاطفة وتسامح وخيال، بما يتيح له أن يدرك آراء الآخرين
ونوازعهم، وما يجيش في صدورهم من شتى العواطف، والدوافع التي حركتهم لاتخاذ سلوك معين
في الزمن الماضي، فآثار الإنسان تتحدث إلى قلب المؤرخ المجيد فيجد في ثناياها صدى البشر
وصدى نفسه وتتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حيّا ويحيا في التاريخ ويعيش
للتاريخ.
العوامل المؤثرة في حركة التاريخ:
يعرف
منطق التاريخ ضمن تعرف التاريخ بأنه منهج البحث الذي يتابع سيرورة التاريخ ووجتهه.
والتاريخية الفلسفية فيه نزعة تجعل من التاريخ حصيلة للمنجز الإنساني، وميدانا للمفكر،
وساحة بحث يستشرف منه الماضي والتراث وتعرجاته؛ بحثا عن المبررات المنطقية الخفية للأحداث
الظاهرية، مما يجعل وجوده مشروعًا على ساحة الفكر قياسًا إلى المواقف العبثية التي
تسلب العقل الانساني القدرة على الاعتبار، ولا ترسم أمامه آفاق مستقبلية، وتجعله رهين
الصدفة والمصالح، وبأحكام ازدواجية لا تستقيم على قواعد أو مرتكزات منطقية. من أجل
الهروب من الماضي والتاريخ الحضاري إلى المستقبل والتعلق به؛ لأسباب سايكولوجية تتعلق
بحداثة تجربة أصحابها وقطيعتهم الابستمولوجية عن سيرورة التاريخ الإنساني في الحضارات
القديمة في آسيا وأفريقيا وأوربا.
لما
كانت فلسفة التاريخ هي الميدان الخصب لمناهج البحث، فقد تجاوز الكثير من الباحثين الذرائع
اللاتاريخية بحثًا عن تجريبية تحول دون الغرق في السردية التاريخية، مدفوعين بنظرة
نقدية علمية تتجاوز الوقائع التي تدور حول الأفراد إلى الأمم، ومن الحكام إلى الحضارات.
وتلك المحاولات توجد في الحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي الذي كان أساسه الإبداع
الإنساني، وتدوين أعمال الخلفاء والأمراء والقادة العسكريين، وإحصاء إبداعات العلماء،
وفكر الحكماء والفلاسفة والفقهاء، انطلاقًا من القاعدة القائلة "بالعلماء ورثة
الانبياء"، فكانت الحضارة تنسب الأمة لا للفرد، والتاريخ يكتبه ذلك الجمع من المبدعين
والمحرومين والصناع المهرة والمكتشفين والأدباء والعلماء والعارفين وأرباب الحكمة.
وبعد
أن أمن الإسلام الحكم الأخلاقي للتاريخ، واستمراره مع الإنسانية إلى الحياة الآخرة،
بما يكشف عن الهدف الأخلاقي الآخروي للأفعال الإنسانية الفاضلة التي تبتهج بالمحتوى
الأخلاقي لأفعالها ومنجزاتها، وبالبشارة المستقبلية لصانعيها في نعيم الحياة الأخرى،
وهو أمر لم يدرك دعاة الرؤية المادية والذرائعية أهميته.
أهم المراجع:
-
نجاة محاسيس (2010)، مفاتيح علم
التاريخ (الطبعة الأولى)، الأردن: دار زهران للنشر والتوزيع، صفحة 14.
-
"أهمية التاريخ في حياتنا"، articles.islamweb.net، اطّلع عليه
بتاريخ 29-03-2020.
-
"أهمية دراسة التاريخ"، articles.islamweb.net، اطّلع عليه
بتاريخ 29-03-2020. بتصرّف.
-
حسن عثمان (1964)، منهج البحث
التاريخي (الطبعة الثامنة)، القاهرة: دار المعارف، صفحة (20-21). بتصرّف.
-
كتب مفيدة
في المنهجية ننصح الطلبة بالرجوع إليها لتوسيع معارفهم:
-
https://archive.org/details/Assaciyat.M.Al-tarikh/mode/2up
-
سعيدوني ناصر
الدين : أساسيات منهجية التاريخ
-
https://archive.org/details/benamira1/mode/2up
-
بن عميرة
محمد : منهجية البحث التاريخي
-
https://archive.org/details/00077pdf/mode/2up
-
دراسات في
منهجية البحث التاريخي
-
https://archive.org/details/20200324_20200324_1340
-
حسن عثمان: منهجية البحث التاريخي
التعليقات على الموضوع