بحث في الإثنوميتودولوجيا
بحث في الإثنوميتودولوجيا
بسم الله الرحمن الرحيم
خطة البحث: في الاثنوميتودولوجيا
مقدمة
المبحث الأول: ماهية الاثنوميتودولوجيا
المطلب الأول: مفهوم الاثنوميتودولوجيا
المطلب الثاني: المفهومات الأساسية في المنظور الاثنوميثودولوجي
المطلب الثالث: الجذور الفكرية للمنظور الإثنوميتودولوجي
المطلب الرابع: العوامل التي ساعدت على ظهور الإثنوميتودولوجيا
المبحث الثاني: المنهجية الإثنوميتودولوجية
المطلب الأول: موضوعات الاثنوميثودلوجيا وقضاياها الأساسية
المطلب الثاني: المناهج المستخدمة في الدراسة الاثنوميتودولوجية
المطلب الثالث: تطور هذا المنهج وتأثيره
المطلب الرابع: تصور المنظور الاثنوميثودولوجي للواقع الاجتماعي
المبحث الثالث: النقد والتقييم
المطلب الأول: عرض نقد حول الأثنوميتدولوجيا
المطلب الثاني: تقييم المنظور الاثنوميثودولوجي
المطلب الثالث: الفرق بين المنهج الوضعي التجريبي و الأثنوميتودولوجي
المطلب الرابع: السوسيولوجيا والاثنوميتودولوجيا
خاتمة
قائمة المراجع
مقدمة:
يعتبر الاتجاه الإثنوميتودولوجي من احدث الاتجاهات و التطورات التي ظهرت في علم الاجتماع ولا يزال لحد الآن أنصار هذا الاتجاه قلة من حيث العدد إلا أن أفكارهم ينظر على أنها ذات طبيعة راديكالية متميزة عن غيرها من اهتمامات هذا الاتجاه انه يدرس الطرق و الوسائل و الإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع في توضيح معنى عالمهم الاجتماعي الذي يعيشون فيه وفيما يقومون به من أنشطة و من ثم يرون أن ممارسات الحياة اليومية للناس هي التي تشيد الواقع الاجتماعي عكس البنائية الوظيفية التي تعتقد أن الواقع الاجتماعي هو الذي يؤطر سلوك الناس و نشاطاتهم اليومية.
المبحث الأول:
مفهوم الاثنوميتودولوجيا:
يرى بعض المنظرين من أمثال رويترنر أن البدايات الأولى لاستخدام مفهوم الاثنوميثودولوجيا يرجع إلى الكتابات المبكرة التي قام بها هارولد جار فنكل في عام1945 وذلك أثناء دراسته و تحليليه لشرائط المداولات لهيئة المحلفين حين طرحت أمامه لأول مرة فكرة ومفهوم الاثنوميثودولوجيا حيث كان مهتما بتحليل مادة المداولات وبكيفية معرفة هيئة المحلفين و ماذا يفعلون خلال عملهم في هذه الهيئة وبكلمات أخرى لقد اهتم جار فنكل بمجموعة الأفعال التي تقوم بها هيئة المحلفين وتستخدمها كنوع من المعرفة و الوسيلة التي تستطيع عن طريقها فهم كيفية تنظيم شؤون المجتمع الذي توجد وتعمل فيه حيث ركز في دراساته على الهيئة و على نوعية المعرفة و أساليب معرفة المداولات وقد انتشر استخدام هذا المفهوم بصورة كبيرة مع تعدد دراسات جار فنكل و أيضا الإثنوميتودولوجيا هي تيار سوسيولوجي تطور خلال سنوات الستينيات (1960) في جامعة كاليفورنيا عن طريق أثنين من رواده وهما أرون سيكوريل (A.Cicourel) و هارولد جار فنكل (Garfunkel.H) هذا المصطلح استعمل لأول مرة مرجعيا مع الإثنوعلوم (l'ethnoscience) الذي يحدد المناهج و المعارف العميقة المستعملة من طرف أناس لعقلنة ممارساتهم الاجتماعية وكمثال على ذلك الاثنونباتية والتي تعرف مناهج تصنيف النبات في مختلف المجتمعات البدائية فالإثنوميتودولوجيا هي مدرسة السوسيولوجيا الأمريكية و التي تدين بالكثير لمؤسسها جار فنكل إنها بتعريف وجيز دراسة مناهج الناس ومعالجة الطرق التي يفهمون بها عالمهم لقد تأثر جار فنكل بأعمال الفينومينولوجيين و أيضا بالتقليد البراغماتي و بالفلسفة التحليلية إن هذا المصطلح استعمل لأول مرة ليحدد المناهج التي تساعد على عقلنة الأشياء الخاصة بالحياة اليومية كالخوض في حوار أو تسليط الضوء على قضية إجرامية وكلمة الإثنوميتودولوجيا معناها منهجية لدراسة النظام الاجتماعي أو الواقع الاجتماعي وتعني أنها تهتم بالمواقف العلمية في الحياة اليومية ولكن بطريقة اجتماعية و يحدد جار فنكل منهجية النظام الاجتماعي ب:
-1يسميها بالفهرسية أو مجموعة الفهرسية أي تخصص لغوي لها معنى لغوي محدد أو ما يسميها بالتعبيرات الفهرسية.
-2 ما يسمى بالبصيرة أو الانعكاسية مثلا: أنا وقفت في طابور عند الخباز أنا أشارك في تكوين هذا النظام وأدعمه ومجبر عليه بطريقة عفوية كأن هذا النظام انعكس عن سلوكي.
حدد جار فنكل الحياة اليومية للأفراد و قد سماها بالخصائص الرشيدة وتحتوي على 14 مجالا هي التي تحدد نمط السلوك للأفراد و هي:
- 1 تصنيف الأفراد للأشياء أو الناس ومقارنتها.
- 2تقدير الأمور أي أضعها في مجال الصواب أو الخطأ.
- 3البحث عن الوسائل لتحقيق الأهداف.
- 4 استخدام إستراتيجية معينة.
- 5 تحليل النتائج المترتبة عن الوسائل.
- 6تقدير قيمة الوقت. (لا يستعمل الوقت وإنما يوظف).
- 7التنبؤ بالأحداث.
- 8 استعمال قواعد إجراء معينة.
- 9الإقدام على الاختبار.
- 10استعمال معايير لهذا الاختبار.
- 11التنسيق بين الوسائل والغايات.
- 12 الوضوح والتمييز بين الأشياء.
- 13 السعي إلى الوضوح.
- 14 التوفيق بين الموقف والمعرفة العلمية.
نبذة صغيرة عن العالم هارولد جار فنكل:
عالم اجتماع أمريكي ولد عام 1917م نال جار فنكل الدكتوراه من جامعة هارفارد على يد تالكوت بارسونز و كتاب آخرين بدرجة أقل كسيكوريل و صاكص كان محور اهتمامه التنظيم الاجتماعي و خاصة في الحقل المسمى مناهج بحث الشعوب أو (المنهجية الشعوبية) الذي ساهم فيه مساهمة كبيرة و يعتبر أهم منشوراته العلمية هو كتابه "دراسات في مناهج بحث الشعوب".
المفهومات الأساسية في المنظور الاثنوميثودولوجي:
يتكون مصطلح Ethnométhodologie من مقطعين يتكون المقطع الأول من الكلمة اليونانية Ethno و التي تعني الشعب أو الناس أو القبيلة أو السلالة أما المقطع الآخر méthodologie التي تشير إلى المنهج أو الطريقة التي يستخدمها الناس في صياغة و تشكيل الحقيقة الاجتماعية مما يشير إلى أن المنظور الاثنوميثودولوجي يهتم أساساً بتطوير مناهج البحث و يدفعنا إلى البحث عن هذه المناهج المستخدمة في الدراسات الاثنوميثودولوجية.
و قد قام جار فنكل بتعريف مصطلح "الاثنوميثودولوجية" على أنه يعني استقصاء الخصائص العقلية لمجموعة التعبيرات و الأفعال العلمية التي تتم أثناء الحياة اليومية و بتعبير آخر يشير هذا المصطلح إلى دراسة المعاني التي يعطيها الناس لكلماتهم و أنماط سلوكهم.
كما حدد جار فنكل المقصود بالاثنوميثودولوجية بقوله: "إن الدراسات الاثنوميثودولوجية تحلل أنشطة الحياة اليومية تحليلاً يكشف عن المعنى الكامن خلف هذه الأنشطة و تحاول أن تسجل هذه الأنشطة و تجعلها مرئية و منطقية و صالحة لكل الأغراض العلمية.
و تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن الطرق التي يسلكها أعضاء المجتمع خلال حياتهم اليومية لتكوين نوع من الألفة بالأحداث و الوقائع
و بالإضافة إلى تحديد مفهوم "الاثنوميثودولوجية" نجد أن أصحاب هذا المنظور قد قاموا بتطوير بعض المفاهيم الأساسية مثل مفهوم "الفعل المنعكس" و مفهوم "البيئة المرتبطة بالمعنى."
-- و يشير مفهوم "الفعل المنعكس": إلى أن كثيراً من أنماط التفاعل التي تحدث بين أعضاء المجتمع تهدف إلى المحافظة على رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية التي قاموا بتشكيلها في مواقف محددة و نجد أن كثيرا ً من أنماط التفاعل بين أعضاء المجتمع تعتبر أفعالا ً منعكسة فالكلمات و الإشارات و الإيماءات التي نستخدمها أثناء عملية التفاعل تهدف إلى المحافظة على رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية و تستخدم في تشكيل و تفسير و إعطاء المعاني للعالم الاجتماعي.
-- أما مفهوم "البيئة المرتبطة بالمعنى": فتشير إلى أن التفاعل المتبادل بين أعضاء المجتمع يتضمن معان تدركها عقولهم مباشرة و هي معان تفوق دلالاتها و مغزاها ما قد تدل عليه إشارة أو كلمة أو عبارة في حديث تبادل بينهم و من ثم فإن الإشارات أو الكلمات أو العبارات التي ترسل أو تستقبل أثناء عملية التفاعل بين أعضاء المجتمع يكون لها عدة معان ترتبط بموقف معين أو بيئة أو ظروف معينة.
ومن خلال مفهومي "الفعل المنعكس" و "البيئة المرتبطة بالمعنى" حاول أصحاب المنظور الاثنوميثودولوجي التعرف على كيفية قيام أعضاء المجتمع باستخدام الإشارات و الكلمات و العبارات في تشكيل العالم الاجتماعي الذي يعيشون فيه و نجد أن ممثلي هذا المنظور لم يتركز اهتمامهم حول التعرف على حقيقة اجتماعية معينة أو على محتويات هذا العالم الاجتماعي بل حول المناهج أو الطرق التي يستخدمها أعضاء المجتمع لتشكيل رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية و المحافظة عليها أو تغييرها و من ثم يهتم المنظور الاثنوميثودولوجي بالكشف عن الطرائق أو أساليب الناس أو الشعب في التعبير عن أنشطتهم و توصيلها للآخرين و الكشف عن الإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع في تشكيل و تفسير و إعطاء المعاني لعالمهم الاجتماعي.
و أيضا هناك بعض المفاهيم الأساسية الأخرى المرتبطة بالاثنوميتودولوجيا مثل:
-- "مفهوم التكامل العلمي": الظواهر الاجتماعية لا تفرض موضوعيا من الخارج على الأشخاص إنها متضمنة في التفاعلات العملية للأشخاص التي تتكامل معها.
-- "الانعكاسية": هي قدرة الأشخاص على أن يأخذوا أنشطتهم بعين الاعتبار هذه القدرة التي يجب على السوسيولوجي اكتشافها دون أن يفرض بقوة المعنى العلمي على المعنى العادي.
-- "المعارف المضمرة و المنابع الضمنية": لفهم معنى التكاملات العلمية يجب توضيح المنابع و المعارف التي هي أساس تحقيق الفعل.
-- مفهوم "العضو": بحيث يقر (HAVI PAUL TEN) أنه هو قلب الأمر و هو الكلمة المفتاح في دور المعرفة العفوية في البحث الإثنوميتودولوجي.
-- "النظام الاجتماعي": تهتم الإثنوميتودولوجيا بالنظام الاجتماعي و بالمناهج التي أنتج بها هذا النظام الاجتماعي و المشتركة في مواقع مختلفة.
الجذور الفكرية للمنظور الاثنوميثودولوجي:
ترجع الجذور الفكرية للمنظور الاثنوميثودولوجي إلى كل من التفاعلية الرمزية و الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجية) و على الرغم من تأثر هذا المنظور بآراء هاتين المدرستين من مدارس الفكر الاجتماعي إلا أن هذا المنظور قد اتخذ له وجهة نظر مختلفة عن الواقع أو العالم الاجتماعي مما أدى إلى ظهوره على اعتبار أنه أحد البدائل النظرية المعاصرة المطروحة في علم الاجتماع الغربي و يذهب "والاس" إلى أنه يمكن اعتبار المنظور الاثنوميثودولوجي على أنه بمثابة أحد الاتجاهات المعاصرة للتفاعلية الرمزية.
و إذا كان المنظور الاثنوميثودولوجي قد استمد جذوره من التفاعلية الرمزية و الفينومينولوجية إلا أن هذا المنظور كما يرى "ألفن جولدنر" يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاتجاهات النقدية التي شهدها علم الاجتماع في الستينات من القرن العشرين و قد ظهر المنظور الاثنوميثودولوجي كأحد البدائل النظرية التي تتخذ موقفا ً نقدياً من النظريات الاجتماعية التقليدية و خاصة من الاتجاه الوضعي في علم الاجتماع و امتداداته المعاصرة و الرجوع إلى الفلسفة الظاهراتية أو فلسفة الظواهر.
و من داخل هذا الإطار المتأثر بالتفاعلية الرمزية و الفينومينولوجية و الاتجاهات النقدية صاغ عالم الاجتماع الأمريكي "هارولد جار فنكل" مفهومه عن المنظور الاثنوميثودولوجي و استطاع جار فنكل تكوين مدرسة فكرية لتبني هذا المنظور الجديد في جماعة كاليفورنيا حيث كان يزاول مهنة التدريس في مدينة لوس أنجلوس ثم انتشر هذا المنظور حديثا ً في باقي الولايات المتحدة و كندا و بريطانيا و غير ذلك من الدول.
العوامل التي ساعدت على ظهور الاثنوميثودولوجيا:
1-- فقدان الثقة بالنظريات السوسيولوجية الكبرى وخاصة البنائية الوظيفة التي لم تعد ذلك الإطار المرجعي للتفسيرات السوسيولوجية.
2-- التناقض الفكري الواضح للوظيفية وطبيعتها المرجعية في تفسير الواقع (التناقض بين الرؤية النظرية والواقع الذي تقوم بتفسيره) مثلا : مشكلة التفرقة العنصرية وهيمنة السلطة السياسية وانتشار الأمراض والآفات الاجتماعية مثل البطالة و الجريمة وغيرها من المشاكل والتي لم تعطي لها الوظيفة اهتماما ملحوظا.
3-- الأزمات السياسية التي تعرضت لها المجتمعات الإنسانية نتيجة لإنتشار الحروب العسكرية وظهور المشكلات السياسية والأخلاقية و الدينية وعجز العلوم الاجتماعية عن دراسة المشكلات الاجتماعية.
4-- إخفاق النظريات السوسيولوجية التي تقوم على الفلسفات المتجددة مثل الفينومينولوجيا والوجودية وغيرها من النزعات التي اتسمت بالطابع المثالي في بعض الأحيان في تفسير الواقع لاجتماعي ونظمه ومؤسساته.
5-- ضرورة تقييم وإعادة النظر في تلك النزعات والنظريات التي ابتعدت في دراستها عن الواقع الاجتماعي.
6-- رفض المسلمات التي تقوم عليها النظريات الوضعية بأشكالها و التي تدور حول علاقة الإنسان والمجتمع في ضوء تدعي لنفسها من خلال أطرها وتصوراتها منهجية الصفة والطابع العلمي الوحيد في دراسة الظواهر الاجتماعية دون الاهتمام بخصوصية الظواهر الاجتماعية المتباينة شكلا ومضمونا عن الظاهرة الطبيعية.
المبحث الثاني:
موضوعات الاثنوميثودلوجيا وقضاياها الأساسية:
1-- دراسة الواقع الروتيني اليومي يذكر فليمر( (Filmer أن الاتجاه الاثنوميثودولوجي يسعى إلى دراسة النشاطات المألوفة تلك التي يقوم بها الأفراد في حياتهم اليومية وكذلك التعرف على ما يتعرضون له من مواقف في حياتهم اليومية و التي تكون لها دلالتها السوسيولوجية وذلك بهدف الكشف عن تلك الطرائق التي يسلك بها الأعضاء في هذه الأنشطة المألوفة و غير المألوفة و المتكررة حيث يستخدم هنا جار فنكل هنا مفهوم "الدلائل" "indexicality" وذلك لتوضيح أن أفعال الأفراد وتصرفاتهم هي نتاج للمواقف الاجتماعية التي يصنعونها أو هي بمثابة مؤشرات على تلك الظروف التي تنشأ فيها أحداث الحياة اليومية حيث انه في مناقشته لذلك المفهوم قد إهتم بالطبيعة النوعية لمثل هذه الأحداث والظروف التي تحدث فيها.
فإن الأشخاص يقومون بمزاولة نشاطاتهم العادية ويؤدنها بطريقة مألوفة التكرار وذلك كما أو كان يحكمها قانون ضمني غير مكتوب ذلك القانون الذي يمثل في تلك الأوصاف التي ينقلها الناس إلى بعضهم البعض في إطار حديثهم عن بعض هذه الأنشطة وذلك لان تكرار نشاطاتهم المألوفة هذه إنما يستند أيضا إلى الفهم الشائع والمشترك فيما بينهم و أن أي محاولة لدراسة تلك الأنشطة غير العادية أو غي المألوفة و التي تنجم أساسا عن الخروج على ما هو مألوف إنما يساعد على اكتشاف تلك القواعد التي تحكم التفاعل الاجتماعي بين الناس في حياتهم اليومية و يتضح الفهم المشترك أو الشائع بين الأفراد وذلك فيما أشار إليه جار فنكل عند استخدامه لمفهوم "العضوية""Membership" بدلا من الفاعلين و الذي تنبع فكرته أساسا من القضية الاثنوميثودولوجية حول السلوك الاجتماعي وذلك حيث يفترض الأعضاء جميعا أن عالمهم الاجتماعي إنما يكون ذا حقيقة واقعية وأنهم جميعا لديهم خبرة وفهم مشترك بالمجتمع الذي يعيشون فيه.
2-- يعتقد رواد هذا الاتجاه أن فهم هذه الحياة اليومية سيوضح لنا مدى سطحية دراسة التنظيمات و المؤسسات الرسمية بالمجتمع حيث أنها تعتمد أساسا على إحصائيات و بيانات و سجلات يعتقد علماء الاجتماع التقليديون إنها ممثلة للواقع وهي في حقيقة الأمر غير ذلك لأنها اعتمد وركزت في تحليلها على أسس ذاتية ( الجانب الكمي) لذلك اعتمدت الاثنوميثودولوجيا على (الجانب الكيفي) حيث يفهم الفرد أحداث مختلفة في مجتمعه من خلال فهمه للأنشطة الواقعية اليومية.
3-- تفسير الاثنوميثودولوجيا لمشكلة النظام الاجتماعي فعن الاهتمام بتفسير مشكلة النظام الاجتماعي نجد أن الاتجاه الاثنوميثودولوجي يعالج على نحو مغاير تماما لكل من وجهتي نظر الوظيفية و الماركسية الكلاسيكية فالاثنوميثودولوجيا عبرت عن وجهة نظرها عن النظام الاجتماعي على انه ليس ذو وجود فعلي حيث أنه يكون محكوم بطبيعة القواعد المعيارية التي ترتبط بالمواقف التي تظهر فيها و تتغير أيضا طبقا لتغيرها إن علماء الاثنوميثودولوجيا يتخلون عن الاعتقاد في وجود نظام موضوعي أو فعلي وينطلقون بدلا من ذلك من مسلمة التي مؤداها أن ( الحياة الاجتماعية تبدو على نحو منظم لأعضاء المجتمع) وهكذا تبدو أوجه نشاط الحياة اليومية في نظر الأعضاء منسقة ومنظمة ولا يعزى النظام فيها بضرورة إلى الطبيعة الأساسية أو الخواص الأصلية للعالم وبعبارة أخرى قد لا يوجد بالفعل تظاهر وإنما قد يظهر ببساطة على أنه موجود بفعل الطريقة التي يدرك بها أعضاء يفسرون الواقع ولذلك يصبح النظام اجتماعي خيال ملائم ويتصور أعضاء المجتمع ظهور النظام وهذا الظهور يسمح بوصف العالم الاجتماعي و يفسره .
المناهج المستخدمة في الدراسة الاثنوميتودولوجية:
لتوضيح المناهج المستخدمة في الدراسات الاثنوميثودولوجيا نجد أن رائدي هذا الاتجاه قد قاموا بإجراء عدة دراسات امبريقية للكشف عن مناهج مختلفة و التي يمكن أن يستعين بها الباحث الاثنوميثودولوجي لكي ينفذ إلى مواقف الحياة اليومية و يتعرف على أفكار و قواعد السلوك المبحوث وعلى الرغم من تعدد هذه الدراسات فإنه يمكن تصنيف هذه الدراسات إلى ثلاثة نماذج:
1-- يتمثل النموذج الأول في تلك الدراسات التي تهدف إلى اكتساب المعرفة الاجتماعية والثقافية.
2-- يتمثل النموذج الثاني في تلك الدراسات التي تحاول التعرف على القواعد العامة التي يقوم الناس بصياغتها بهدف فهم أنماط السلوك ويفسر كيفية نشأة النظام.
-- أما النموذج الثالث من الدراسات فيتمثل في تلك الدراسات الهامة التي نحاول التعرف بها على الطرق التي يتبعها الناس للحكم على الأنشطة و إقرارهم بأنها مقبولة و مفهومة.
وقد انتقد أصحاب المنظور الاثنوميثودولوجي طرق وأدوات البحث المستخدمة في علم الاجتماع مثل المسح الاجتماعي و المقالات كما رفضوا استخدام صحيفة الاستبيان كوسيلة لجمع البيانات الكمية التي تتطلبها الدراسات الاثنوميثودولوجية وذلك على أساس أن مثل هذه الأساليب الكمية تفصل بين الباحث و موضوع دراسته وتتضمن معرفة سابقة بالواقع يفوضها الباحث على أداة بحثه بالإضافة إلى موقف التفاعل بين الباحث و المبحوث ويؤثر على حجم ونوعية البيانات التي يتم الحصول عليها ولكي يتعرف الباحث الايثنوميثودولوجي على أفكار و قواعد سلوك المبحوث دون أي تدخل من طرف الباحث يرى أصحاب هذا المنظور أنه يمكن استخدام طريقة الملاحظة بالمشاركة.
بالإضافة إلى مناهج أخرى مثل المنهج الشبه تجريبي الذي يطلق عليه التجربة الاثنوميثودولوجية و الذي صاغها جار فنكل في كتاباته الأولى والمنهج الأخر الذي أطلق عليه المنهج ألتوثيقي.
وكي يمكن فهم أي موقف في الحياة اليومية من وجهة نظر أعضاء المجتمع المشاركين في هذا الموقف يمكن تطبيق منهج شبه التجريبي على الجماعة التي يحاول الباحث دراستها ويمكن للباحث تطبيق المنهج أو التجربة الاثنوميثودولوجية عن طريق محاولة كسر القواعد التي تحكم سلوك الجماعة بطريقة تختلف عن القواعد المتفق عليها مع تسجيل رد فعل الجماعة تجاه الباحث ومن ثم يمكن للباحث اكتشاف القواعد التي لا يعرفها الباحث كما لا يعرفها الأعضاء المشاركين في عملية التفاعل وعلى سبيل المثال يحاول الباحث تعمد التصرف كما لو كان غريبا مع أعضاء أسرته مع تسجيل رد فعل أعضاء الأسرة اتجاه الباحث وبذلك يتمكن من التعرف على القواعد السلوكية المتفق عليها داخل الأسرة و التي تحكم سلوك و تصرفات أعضاء هذه الأسرة.
وقد استخدم هذا الاتجاه المنهج ألتوثيقي في محاولة تفسير كثير من المواقف على سبيل المثال نجد جار فنكل بين جماعة المحلفين وقد استمع إلى هذه التسجيلات وما يذكره هؤلاء المحلفين مع بعضهم البعض كجماعة داخلية ثم بعد ذلك قام بمقابلة هؤلاء المحلفين للتعرف على كيفية وصفهم لأسلوب المداولة أمامه كشخص خارجي عن الجماعة وعن طريق المقارنة بين ما استمع له في تسجيلات وتصرفات المحلفين في جماعتهم الداخلية وبين تصرفاتهم داخل إطار مرجعي مختلف في حالة وجود شخص خارجي بهذا تمكن جار فنكل من التعرف على كافة الظروف التي يتخذ فيها المحلفون قراراتهم و التي جعلت منهم جماعة لها سمات معينة.
إن نتائج مثل هذه الدراسات توضح بوجه عام أن أي فعل يبدو غامضا حتى يمكن إدراك معناه من خلال ما يحدث في الحياة الاجتماعية بالإضافة إلى أنها توضح كيفية صياغة أعضاء المجتمع للحقيقة الاجتماعية.
ويوصي هانز بيتردريتزل وهو أحد العلماء الذين تبنوا المنظور الاثنوميثودولوجي بأن يقوم علماء الاجتماع باستخدام المنهج ألتوثيقي نظرا لأن المنهج يمكنهم من فهم المعاني والدلالات التي تتضمنها عملية التفاعل.
و يصرح جار فنكل أن الطريقة التي ينظم بها الناس عالمهم الاجتماعي و يعقلونه هي تتم عبر نسق سيكولوجي والذي سماه بالمنهج الوثائقي هذا المنهج يتكون بالدرجة الأولى من حقائق منتقاة من الوضعية الاجتماعية.
تطور هذا المنهج وتأثيره:
هذا المنهج طور من طرف هارولد جار فنكل و الذي أعتمد في تحليله الذكي للسوسيولوجيا التقليدية خاصة بدوركهايم و بيير بارسون وعلى اهتمامات السوسيولوجيا التقليدية للهوبو أو "مشكلة الخلل في النظام" و بفينومينولوجيا أرون كروتش و ألفرد سوتز و إدماند هارسل و مارتن هيدكر.
للإثنوميتولوجيا دور مهم في البحث العلمي الاجتماعي و أثر على اللسانيات خاصة البراكماتية فهي ترتكز على الطرق التي ترتبط فيها الكلمات بالمعنى في إطار السياق الذي استعملت فيه الشيء الذي يفرض علينا إعادة التفكير في موضوعية العلوم الاجتماعية و صعوبة تأسيس وصف للتصرف الإنساني وفي هذا الصدد فان جار فنكل ينتقد الموضوعية كمبدأ أولي لكل وصف بالنسبة للعلوم الاجتماعية والإنسانية إذ أن الموضوعية في نظره تؤدي إلى خلق مسافة اصطناعية بين الملاحظ والظاهرة.
تختلف الإثنوميتودولوجيا عن الفروع الأخرى في جانب مهم فبالرغم من أن الوظيفيين والماركسيين و التفاعليين الرمزيين كلهم نوعا ما يختلفون فإنهم كلهم يتفقون على أن العالم الاجتماعي هو بالضرورة منظم وبالتالي فطرق التصرف والتفاعل داخل المجتمع هي منتظمة و منهجية أكثر مما هي اعتباطية و فوضوية وبطبيعة الحال فكل من هذه التوجهات تفسر هذا النظام الاجتماعي (l'ordre social) بطريقتها الخاصة فالوظيفيون مثلا ينظرون إليه كنتيجة إجماع قيمي والذي يؤكد أن السلوك ينطبق مع الأعراف المقبولة داخل المجتمع و الماركسية بدورها تراه كنتيجة لتبعية طبقة لأخرى فالبرغم من أنه يتسم بالخطورة ومن أنه يعاني من معيقات ناتجة عن الثورة إلا أنه موجود أي (النظام الاجتماعي) أما التفاعليون في هذا الصدد يختلفون عن هذه الميكرو توجهات في أنهم ينظرون إلى النظام كشيء ينشأ يوميا عن وضعيات تفاعلية متعددة أكثر من أنه مجرد مظهر للنظام الاجتماعي إنه في نظرهم النظام المتفاوض عليه و الذي يتفرع عن أنساق من التعاريف ويعتبر التأويل و التفاوض عنصران مشكلان للتفاعل الاجتماعي وبالرغم من كل هذا فهذا المنهج كما هو الشأن للمناهج الأخرى يقر بالنظام الاجتماعي كمظهر موضوعي للحياة الاجتماعية.
على عكس هذه المناهج فالأثنوميثودولوجيون يعتقدون بأن النظام الاجتماعي شيء وهمي مؤكدين وجهة نظرهم بأنه يعتقد أن الحياة الاجتماعية تبدو منتظمة و منظمة ولكنها في الحقيقة فوضوية بالنسبة لهؤلاء فالنظام الاجتماعي يتشكل في أدهان الفاعلين الاجتماعيين (les acteurs social) لأن المجتمع يتعامل مع الفرد كنسق من التأثرات الحسية و التجارب التي يجب أن ينظمها أو تنظمها في قالب متجانس.
جار فنكل صرح أن الطريقة التي ينظم بها الناس عالمهم الاجتماعي و يعقلونه هي تتم عبر نسق سيكولوجي والذي سماه بالمنهج الوثائقي هذا المنهج يتكون بالدرجة الأولى من حقائق منتقاة من الوضعية الاجتماعية.
للبرهنة على هذا المنهج الوثائقي و لتوضيحه فلقد قام جار فنكل بتجربة عن شعبة علم النفس في جامعة إذ طلب من مجموعة من التلاميذ القيام بالمشاركة في هذه التجربة معلما إياهم أنها تحمل في طياتها شكلا جديدا من أشكال علاج الاضطرابات النفسية دعي هؤلاء الطلبة للتحدث مع مختص هذا الأخير الذي عزل عنهم بشاشة تمنعهم من رؤيته و لكن تسمح لهم بالتواصل معه عن طريق نظام داخلي و المطلوب من هؤلاء الطلبة هو سؤال هذا المختص مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بمشاكلهم رغبة منهم في إيجاد حل لها هذا الأخير الذي يتوجب عليه أن يجيب بنعم أو لا ما لا يعرفه هؤلاء الطلبة هو أن هذه الاستجابات ليست بأجوبة حقيقية للأسئلة المطروحة و لكنها عبارة عن لائحة مشكلة من نعم و لا و محددة مسبقا تكون مكتوبة على طاولة مشكلة من أرقام اعتباطية.
استنتج جار فنكل أنه بالرغم من أنه ليس هناك رابط منطقي بين الأجوبة المعطاة إلا أن الطلبة استطاعوا أن يعقلونها حيث فطنوا بعض البنيات الخفية في النصيحة التي أعطيت لهم فمعظمهم وجدوا النصيحة التي أعطيت لهم معقولة و مساعدة و يتضح الأمر عندما تعمل النصيحة بشكل متناقض ففي مثال سأل أحد الطلبة المختص "إذن تعتقد أنني سأغادر المدرسة" فقوبل برد فعل من طرف المختص على شكل "نعم" و لكن الطالب فوجئ بهذا فسأله ثانية ليتأكد "هل تعتقد حقا أنه علي مغادرة المدرسة" فكان الجواب الذي تلقاه هو "لا" الطالب لم يعتبر النصيحة أو المحادثة مجرد ترهات بل جاهد ليصل إلى معناها و ليعقلنها باحثا عن قالب يجمع كل هذه الإجابات التي تلقاها من المختص و ذلك بمراجعة كل الأجوبة السابقة محاولا إيجاد معنى للكلمات المتناقضة في المعرفة التي قدمها هذا المختص كحل للمشاكل و لم يشك الطالب و لو لوهلة في نزاهة و إخلاص الناصح.
ما يقوم به الطالب خلال هذه الحصص الاستشارية حسب جار فنكل هو بناء الحقيقة الاجتماعية لفهم تفاعل (التجربة مثلا) عادة مما يكون دون معنى و باستعمال المنهج ألتوثيقي فإنهم استطاعوا تفهم ما هو في الحقيقة فوضوي.
إن أهم مظهر من مظاهر النظرية التوثيقية التي لفتت انتباه جار فنكل هي الفهرسة و التي تعني بكل بساطة أن الأشخاص يعممون أي ملاحظة أو رمز أو أي حدث خاص بالرجوع للسياق الذي حدث فيه و بمعنى آخر فهم يفهرسونه أو يعرجونه لظروفه الخاصة لكي يعمموه.
و بالتالي فالجواب الذي أعطي للناصحين في التجربة الاستشارية لا يكون له معنى إلا في السياق الذي أجريت فيه التجربة و بالتالي فالمكان الذي حدثت فيه التجربة و المعلومات المعطاة حولها كلها عوامل مساعدة يمكن أن ترشدنا إلى قبول التجربة كحقيقة جديرة بالوثوق و لو أن هذه التجربة السالفة الذكر حدثت في الغرف الخاصة بالطلبة و يكون الشخص المختص هو أحد الطلبة فإن التأويل الذي سيعطى للأجوبة سيكون مختلفا تماما.
جار فنكل يقترح أننا باستمرار نقوم باستعمال المنهج ألتوثيقي في حياتنا اليومية و ذلك لنخلق عالما مسلما به نحس أننا نعرفه هذا الأخير الذي نعيش فيه كبيت لنا و نتعايش معه إننا نفهم عالمنا الاجتماعي عبر نسق من قوالب بنياناها لعقلنة واقعنا و مواجهة مختلف الوضعيات التي تصادفنا يوميا.
إذ أحيانا نعرف أشياء أو نعتقد أننا نعرفها جيدا لدرجة أننا لا نلاحظها عندما تتغير و كمثال على ذلك فالزوجة يمكن أن تغضب لمجرد أن زوجها لم يلاحظ تسريحة شعرها الجديدة أو فستانها الجديد إذ أن نموذج مظهرها و تصرفاتها الذي يحمله زوجها في ذهنه تبت ورسخ لدرجة أنه لم يستطع أن يتأقلم مع الوقائع الجديدة و قد استخلص جار فنكل أن كل هذا العالم المسلم به و الذي نعيش فيه هو نوعا ما ضروري و ذلك لاجتناب الالتباس الذي يمكن أن نقع فيه لو أننا نرى كل شيء كما لو نراه لأول وهلة.
إن الطريقة المفضلة في أوساط الأثنومتودولوجيون هي التشويش من وقت لآخر على هذا العالم الذي يسلم به الناس و تحليل ردود أفعالهم و الغاية من هذا كله هو فضح الإدعاءات المسلم بها و التي تتخذ كحقيقة لمدة طويلة و في هذا الصدد و في واحدة من تجاربه فقد سأل جار فنكل تلامذته أن يتصرفوا كزوار في منازلهم و تسجيل أي ردود أفعال مرتكبة والتي يمكن أن تصدر من آبائهم أثناء محاولتهم لفهم و عقلنة التشويش الفجائي الذي يطرأ على علاقاتهم العادية(العرضية) التي بنوها في أعوام طويلة مع أولادهم.
كما رأينا فإن الأثنومتدولوجيا تسعى إلى تجاهل المعلومات المنقولة المبلغة خلال التفاعل مركزا على كيفية إنجاز هذا التفاعل هذا لأن موقف الأثنومتدولوجيا يقترح أن كل المعاني لا يمكنها أن تكون موضوعية و الحقيقة الاجتماعية الموضوعية الوحيدة و التي تستحق أن تدرس هي حقيقة الفهم المشتركة للمناهج التواصلية وفي هدا الإطار لابد من توضيح أن الأثنومتدولوجيا ليست نسبية محضة لذا يتوجب عليها أن تحضر قوانينها لنفسها للعمل أي أن الأثنومتدولوجي لا بد أن يجزم أن الآخرين لا بد أن يفهموا معنى عمله أو عملها وأن القدرة الوحيدة الجديرة بالاهتمام في نظر الأثنومتدولوجيين هي القدرة الإنسانية لاستخراج النظام من الفوضى فبالنسبة لهم فالقدرات الأخرى كالحكم و الأخلاق (القدرة على إيجاد الأحكام الأخلاقية) يمكن أن تعتبر و ترى لا موضوعية و لا تحتوي على أي حقيقة و بالرغم من ذلك فإن الأثنوميتدولوجيا هي منهج جيد لرؤية كيف يفهم الأفراد العالم الاجتماعي لأنفسهم و بالتالي فإنهم يخلقون حقيقتهم الخاصة من خلال المعلومات البسيطة الثمينة المتوفرة لديهم.
تصور المنظور الاثنوميثودولوجي للواقع الاجتماعي:
على الرغم من أن المنظور الاثنوميثودولوجي يعتبر أحد الاتجاهات المعاصرة للتفاعلية الرمزية إلا أن هذا المنظور يعتبر منظورا ً مختلفا ً تماما ً عن غيره من النظريات الأخرى التي تشكل الاتجاه التفاعلي إذا يهتم هذا المنظور بتحليل الطرق التي يتحدث بها أعضاء المجتمع إلى بعضهم البعض في الحياة اليومية بحيث يظهر هؤلاء الأعضاء على أنهم كائنات عقلانية توجه سلوكهم مناهج عقلية رشيدة.
و على سبيل المثال يهتم المنظور الاثنوميثودولوجي بالطرق التي يتبعها أعضاء المجتمع لإقناع بعضهم البعض بأن أحد الأفراد يكون أولا يكون منحرفاً ويفترض أصحاب المنظور الاثنوميثودولوجي أن النظام الاجتماعي العام يتم بالمحافظة عليه عن طريق استخدام أعضاء المجتمع لعدة طرق وإجراءات منهجية تجعلهم يشعرون بالحقيقة الاجتماعية الخارجية أو النظام الاجتماعي العام أي أن اتفاق أعضاء المجتمع على مجموعة عامة من الطرق أو الإجراءات هو الذي يشكل معنى الواقع الاجتماعي بوجه عام.
لذلك لا بد من دراسة الطرق و الإجراءات المعقدة التي يتخذها أعضاء المجتمع بشكل شعوري أو لاشعوري من أجل تشكيل الواقع الاجتماعي.
يرى أصحاب هذا المنظور أنه يجب إثارة التساؤلات حول الأبنية الاجتماعية القائمة فكثيرا ً من القواعد و المعايير الاجتماعية ليست معروفة بشكل واضح لأعضاء المجتمع ومع ذلك فهي تستخدم كأشياء مسلم بها و من ثم لابد من إثارة بعض التساؤلات التي تكشف عن الطرق و الإجراءات التي يستخدمها أعضاء المجتمع لجعل أفعالهم و أهدافهم و خبراتهم الماضية قابلة للتفسير و الفهم من قبل الأعضاء الآخرين في المجتمعم.
و يهدف المنظور الاثنوميثودولوجي إلى وصف كيفية قيام أعضاء المجتمع أثناء تفاعلهم في الحياة اليومية بصياغة المفاهيم حول المواقف المختلفة و كيفية قيامهم بتشكيل الحقيقة الاجتماعية و يرى أصحاب هذا المنظور أن تشكيل الحقيقة الاجتماعية تعد عملية مستمرة من التفسير و ذلك نظرا ً لأن موافقة أعضاء المجتمع حول تعريف مواقف الحياة تعد عملية متغيرة ( دينامكية) و غير ثابتة و من ثم فإن أصحاب المنظور الاثنوميثودولوجي يضيفون إلى الاتجاهات النظرية الأساسية في علم الاجتماع واهتمامهم بدراسة التغير الاجتماعي على مستوى الوحدات الاجتماعية الصغيرة النطاق.
و يتضح مما سبق أن المنظور الاثنوميثودولوجي يؤكد أن الواقع الاجتماعي في حالة تغير دائم و أنه يمكن دراسة هذا التغير على مستوى الوحدات الاجتماعية الصغرى دون الوحدات الكبرى و نجد أن هذا المنظور يحث الأفراد على تغيير دواتهم بدلا من تغيير النظام الاجتماعي القائم.
و لعل في هذا إشارة إلى ما تتضمنه هذه الأفكار من دعوة للمحافظة على النظام السياسي القائم و ما به من أزمات تنعكس على البناء الاجتماعي ككل و هذا ما سنلاحظه عند عرض النقد الذي وضعه سمير نعيم و عالم الاجتماع البريطاني سمارت.
المبحث الثالث:
عرض نقد حول الأثنوميتدولوجيا:
إن المفروغ منه هو أن الأثنومتدولوجيا قامت بمجموعة من المساهمات في مجال النظرية السوسيولوجية و في التحقيق التجريبي للحياة اليومية إلا أن معظم النظريات التي تفرعت عنها خاصة النظرية التواصلية التحليلية لها منهج جد مقيد هذه الأخيرة التي ساهمت في بروز السوسيولوجية السلوكية و التجريبية و التي لا تعكس الأصول التأويلية التي أنعشت الأثنوميتدولوجيا هذه الأخيرة التي تتسم بالتشتت و التي هي بعيدة كل البعد عن التجانس ولتوضيح هذه النقطة لابد من الإشارة لأهم مرتكزات هذا المنهج:
1-- معظم الدراسات الأثنوميتدولوجية ترتكز حول تمارين الملاحظة أول هذه التمارين هي محاولة فهم أشغال الدارسين: واحد من هذه التمارين هي الملاحظة بالمشاركة في ملاحظة عائلة كل تلميذ إذ يقوم الدارسون بلعب دور الإثنوغراف (الإثنوغرافيا (البحث في عراقة الشعوب)) على عائلاتهم و في هذا الإطار فقد حصل جار فنكل على 35 وصف إثنوغرافي من هؤلاء الدارسين الذين أخذوا دور الغريب وسط عائلاتهم فالدارسون تركوا مسافة اصطناعية في دراستهم و ألغوا كل الأحاسيس و لتجسيد هذا سنقوم بعرض دراسة لأحد الطلبة: "رجل من الحجم الصغير يدخل إلى البيت يعانقني و يقول لي: " كيف حالك؟ أجيب باحترام : يسير نحو المطبخ يعانق أصغر واحدة من المرأتين و يقول أهلا للأخرى المرأة الأصغر تقول لي: ماذا تريد للعشاء؟ أجيب: لا شيء. تهز كتفيها و لا تقول أي شيء. الأخرى تقوم بالمشي و هي تتلعثم. الرجل يغسل يديه يجلس للطاولة و يبدأ بقراءة جريدته أخذ يقرأ في حين أن النساء يرمين الغطاء المرأتين جلسن إلى الطاولة تتحدثن عن أحداث اليوم و أخدن يضحكن المرأة الأكبر سنا تقول شيئا بلغة غريبة أضحكت الكل" جارفنكل يستعمل للتعبير الأوصاف السلوكية لوصف حصيلة عمل كل طالب الطالب يحاول إبعاد المشاعر عن عمله لا توجد مرجعيات للمعارف اليومية للأحداث البيوغرافية و للعوامل العاطفية للكتاب حسب. (جارفنكل: هذه الأوصاف تعتبر فقدان الذاكرة الاجتماعي النسيان الكلي للمعرفة العادية و اليومية للهياكل الاجتماعية و نوعيتها. فقدان الذاكرة الاجتماعية هذا يمكن أن يعتبر مرحا). إجابة على مسيرة التلميذ. "أبوه سأله: ماذا بك؟ " "لقد عملت حتى وقت متأخر ليلة أمس هل أنت مريض؟" الاحترام المفرط للطلبة و لفقدان ذاكرتهم الاجتماعية تزعزع آبائهم. "أعضاء العائلة يتشاجرون هذا الغضب ينتج عن ترك مسافة اجتماعية و عن انفصال التلاميذ في هذه الفترة". جارفنكل قام بتعليق ضمني عن دوره السوسيولوجي و عن وضعية الإثنوغراف في سياقات اجتماعية.-- الاحترام, نقص العواطف, فقدان الذاكرة الاجتماعية و استيعاب الموضوعية التي تصنف الدارس على أنه باحث في هذه الأعراض المحددة للسوسيولوجيا بصفة عامة التي تتميز بنقص الاعتراف بالعلاقات العاطفية.
2-- الأثنوميتدولوجيا تركز على حقيقة أن الأشخاص كأفراد في المجتمع يستعملون و يعتمدون على جسد من المعرفة التطبيقية و التي يعتقدون أنها مشتركة على الأقل في جزءها مع الآخرين.
3-- الأثنوميتدولوجيا لها اهتمام بالدراسة الإجرائية للحس المشترك كما استعملت بشكل علمي و التي وجهت بمشكل منهجي خاص إذ أن ممارسات الحس المشترك هي موضوع دراستها و لكن هذه الممارسات تستعمل كمرجع لأي دراسة يمكن أن يقوم بها أي شخص إنه بدون استعمال الحس المشترك فإن هدف الدراسة سيكون بكل بساطة بدون جدوى و غير صالح لأن الأثنوميتدولوجيا شكلت بتطبيق نظريات الحس المشترك كالمنهج ألتوثيقي والتأويل مثلا.
إذن فإن مشكل الأثنوميتدولوجيا هي كيف يمكن أن تخسر الممارسات الحسية و المعرفية المتعلقة بالحس المشترك مقامها كمصدر غير مدروس ليصبحوا (أي الأفراد) موضوعا للدراسة أي كيف يمكن أن يتحولوا من مصدر غير مدروس إلى موضوع للدراسة.
تقييم المنظور الاثنوميثودولوجي:
واجه هذا المنظور العديد من الآراء الناقدة لما حمله من أفكار حيث يرى عالم الاجتماع الأمريكي ألفن جولدنر أن جار فينكل يقدم بفكره بديلاً للعنف في مقاومة الوضع القائم في المجتمع الأمريكي ذلك أنه يدعو إلى نوع من الفوضوية قد تروق للشباب الساخط على النظام الاجتماعي فالمنهجية الشعوبية دعوة إلى تغيير الذات بدلاً من تغيير النظام أو هو مواجهة فردية صغيرة و مقاومة غير عنيفة للوضع القائم لا تزيد عن كونها تمرداً رمزياً يستجيب لمشاعر الشباب حتى لا يعبروا عنها بالثورة أو العنف.
كما يوجه حجازي في كتابه النظريات الاجتماعية عدة ملاحظات بخصوص هذا المنظور حيث يقول: هناك عدة ملاحظات يمكن أن توجه لهذه النظرية و هي:
1 -- تعتبر المنهجية الشعوبية وجهة نظر أكثر منها نظرية خاصة أنها تكشف عن كثير من الثغرات النظرية من حيث إفراطها في تبسيط الحقيقة الاجتماعية.
2 -- نقطة أخرى و هامة و هي أن جار فنكل أهمل المحتوى البنائي الذي فيه تنبعث عملية الترشيد مثل تأثير خصائص الجماعات المختلفة في هذه العملية.
3 -- جعل جار فنكل من كل نواحي النسق الاجتماعي وظيفة لعملية التطابق و الترشيد و في هذا إفراط في تبسيط ما هو مركب و معقد و يبدو أن هذه مشكلة دراسات الوحدات الصغرى عندما تتزايد في التصغير.
و لعل أقوى نقد لهذه النظرية هو ما صرح به سمير نعيم حول هذا الاتجاه حيث يقول: "لا بد أن أعترف هنا للقارئ أنني كنت أكن احتراماً غامضاً للفلسفة الفينومينولوجية و للاستفادة منها في فهم الواقع الاجتماعي ... وظللت أحاول أن ألم بما قدمه جار فينكل من إسهام و لكنني اكتشفت أن كل ما كتبه و ما كتب عنه لا يمكن أن يزيد عن السطور القليلة السابقة مكررة بعشرات الصيغ و مدعمة بعشرات الأمثلة التوضيحية و ندمت ندماً شديداً على الوقت الذي أنفقته في هذه القراءة و لكن خفف من حدة ندمي أن زال سحر التسمية من عقلي و لم أعد أجهل المضمون الفارغ لهذه البدعة النظرية و قوي اعتقادي بأن هناك جهداً مقصوداً لشغل طلاب الاجتماع و المثقفين بأفكار جديدة ينفقون وقتاً هائلاً في محاولة فهمها ثم مناقشتها و نقدها و رفضها و ما إن ينتهوا من ذلك حتى تفرض عليهم أخرى و هكذا لا يلتفتون إلى القضايا الأساسية للمجتمع و لا يصلون إلى فهم علمي حقيقي له و رأيت من واجبي أن أقدم هذه الصورة من الأفكار للقارئ العربي حتى يستفيد منها درساً و حتى لا ترهبه الأسماء الكبيرة أو التسميات البراقة التي تتخفى وراء ستار علمي".
ربما هذا يعيدنا للظروف التاريخية التي ترافقت مع نشأة هاتين الفلسفتين (الظاهراتية و المنهجية الشعبية) و كيف كانت كرد فعل على عدم ملائمة قيم المجتمع الرأسمالي الصناعي و يرى عالم الاجتماع البريطاني باري سمارت أن تشجيع المؤسسات العلمية و الاقتصادية و السياسية و العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية لهذا النوع من الدراسات إنما يرجع إلى أن جار فينكل و منهجه الشعوبي يركز الاهتمام على مواقف الحياة اليومية و كيفية تصور الناس لها بحيث يصرف الاهتمام تماماً عن أي شيء يتصل بالبناء الاجتماعي و عن أزمات هذا البناء فهو يقدم علم اجتماع محور اهتمامه هو الكلام و الكلام عن الكلام بدلاً من الاهتمام بطبيعة ما يفعله الناس و بالعلاقة الجدلية بين الفكر و الفعل.
أخيراً نقول إن في استعراض أفكار هذه النظريات التي طرحت في القرن العشرين و التي استحدثت في علم الاجتماع وفق ظروف معينة و من ثم استعراض آراء العلماء و خاصة ما جاء عن سمير و نعيم و العالم البريطاني سمارت لعل فيه ما يفيد طالب الدراسات العليا و يلفت نظره إلى أن هناك بعض الأفكار التي تم التأسيس لها و ربما يكون الغرض منها هو أغراض و أهداف سياسية قبل أن تكون نظريات لدراسة المجتمع و بالتالي عليه أن لا يخشى من إبداء وجهة نظره المعارضة لهذه الأفكار و على الأخص إن دعم وجهة نظره بدراسات واقعية أو آراء علماء لهم وزنهم في عالم الاجتماع.
الفرق بين المنهج الوضعي التجريبي و الأثنوميتودولوجي:
1-- المنهج الأثنوميتودولوجي:
فهم الأفراد ككائن عقلاني.
المنهج الوضعي التجريبي:
الأفراد حقيقة واقعية كائن أوجده المجتمع.
2-- المنهج الأثنوميتودولوجي:
منظر واقعي يذهب إلى الواقع.
المنهج الوضعي التجريبي:
منظر علمي يستعمل الإحصائيات و المنهج المقارن.
3-- المنهج الأثنوميتودولوجي:
الاهتمام بالثقافة والإطار الاجتماعي.
المنهج الوضعي التجريبي:
لا معنى للثقافة بل الفرد .
السوسيولوجيا والاثنوميتودولوجيا:
تتميز الأثنومتدولوجيا عن السوسيولوجيا التقليدية و لا تسعى أن تنافسها أو تعالج أيا من مزاولاتها:
1-- "الوسط الاجتماعي": تقوم بوصف الوسط الاجتماعي بالمنافسة مع الأوصاف المعاصرة من طرف الأفراد الذين ينتمون لهذه المواقع.
2-- بالنسبة للموقف الدوركايمي في السوسيولوجيا التقليدية و في المبحث الاجتماعي الهدف الأقصى هو التحري عن الحقائق الاجتماعية و نهايتها تسعى إلى وصف التطبيقات و المناهج التي يستعملها هؤلاء الأفراد في وصفهم الصعب لهذه المواقع و الاثنوميتودولوجيا تعالج الحقائق كنتائج إذ ترى أنها نتاج ينتج داخل و من خلال ممارسات الأشخاص.
خاتمة:
أفرزت الإثنوميتودولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الدراسات حول المؤسسات الاجتماعية, القضائية و الصحية و حديثا أيضا أعمال جديدة خاصة بسوسيولوجيا العلوم و منذ عهد صاكص فتحت مجالا جديدا للأبحاث و تحليل الحوار وبالرغم من كل هذا فهناك بعض الثغرات في محاولة جادة لإنشاء نظرية ديناميكية تختلف عن الأسلوب التقليدي وتعتبر بداية لأسلوب جديد في علم الاجتماع قد يؤدي إلى إثراء العلم وخاصة في فرع التنظيم الاجتماعي.
المراجع:
• أحمد سمير نعيم: النظرية في علم الاجتماع، القاهرة، مكتبة سعيد رأفت، 1977 م
• حجازي محمد فؤاد: النظريات الاجتماعية،القاهرة، مكتبة وهبة، 1988م
• عبد الجواد مصطفى خلف: نظرية علم الاجتماع المعاصر، عمان، دار المسيرة، 2009م
• عمر معن خليل: نظريات معاصرة في علم الاجتماع ، عمان ، دار الشروق ،1997م.
• لطفي طلعت إبراهيم و كمال الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، القاهرة ، دار غريب،1999م
التعليقات على الموضوع