زياد ابن أبيه .. والي وعامل معاوية على العراق
كتاب مهم جدير بالاقتناء والقراءة: زياد ابن أبيه .. والي وعامل معاوية على العراق.
المؤلف: المستشرق الفرنسي هنري لامنس.
ترجمة: قنيني عبد القادر.
إصدار: دار الوراق للنشر - لندن.
سنة الصدور: 2018.
عدد الصفحات: 224.
التجليد: برش.
القياس: 21 سم × 14 سم.
________________________________
مقدمة المترجم.
إن إعجاب هنري لامنس بشخصية زياد ابن أبيه راجع إلى عدة أسباب، منها غموض أصله ونسبه، ومنها استلحاق معاوية له لأسرته واتخاذه أخاً له، ومنها اختلاف المؤرخين حول تقييم عمله وعدم إدراكهم لنظام الحكم الذي أسسه، وإقامة إمبراطورية، وإن كان معاوية أسهم في التخطيط لها، فإن زياداً بعد المغيرة، يعتبر أول من وضع التصور العام لإنشاء حضارة إسلامية في هذه المنطقة الخطيرة، بلاد الرافدين، سيظهر أثرها في المستقبل وإشعاعها، لقرون إلى يومنا هذا، الذي تتفكك فيه هذه الحضارة أمام أعيننا الآن، ولذلك وجب أن نعرف كيف أسّس هذه الحضارة، ولماذا هي معرضة الآن للزوال. وماذا يجب أن نعدّ لأبناء هذه المنطقة، من تفكير حتى يحافظوا على وجودهم. ولذا فالإشكال بالنسبة إلى مؤرخ مثل هنري لامنس وبالنسبة إلينا في الآن وهنا هو كيف استطاع هذا الرجل لفترة وجيزة، وفي غمرة أحداث الفتنة الكبرى، وتطاحن أهل الإسلام وتفرقهم واختلافهم حول الدين، وحول نظام الحكم أن يبني تصوراً فريداً لإنشاء الدولة التي قامت على وجودها دول سائر الإمبراطورية العربية شرقاً وغرباً، وهي دول في طريقها الآن إلى الزوال لأن تصورها لم يكن متماسكاً ولم يعد قابلاً للوجود وللحياة بعد أربعة عشر قرناً كاملة، وما لم نفهم عقلية زياد المؤسس الرسمي لهذه الحضارة يستحيل علينا أن نحمي أبناءنا من الاجتثاث المحتوم.
ذلك أن هذا الرجل كما تقدمه لنا المراجع الموثقة كما يستشهد بها هذا المؤرخ، وهي مراجع كثيرة ومتنوعة، وبلغات عديدة، ظهر للمؤرخين من جنسيات متعددة أنه غريب الأطوار. وفي فلسفة التاريخ، نحن نراجع مع نيتشه، المؤرخين مثل تيوسديد، وسالوست وماكيافيل، فنعرف ضروب التخطيط عند مؤسسي الدول، وهادميها. ولكننا لم نستطع حتى الآن أن نتكهن بعمق أسلوب هذا الرجل وخطره في التاريخ مما أظهره في خطبه وتخطيطاته: وقد بدا إيماننا بوجودنا، وبإنشاء حضارة معرضة للزوال، كان قد أسّسها...
بدأ هذا الإيمان يتزعزع لأن بناء زياد، وعمل زياد وتصور زياد كان ولا يزال يطرح السؤال: كيف استمرت الفتنة الكبرى حتى الآن؟
لم يعطِ هنري لامنس إجابة صريحة عن هذا التساؤل وعن الإشكال العام في تفكير زياد، ولكن أشار إلى عناصر بعض الإجابات، منها أن هذا الرجل ظلّ محتفظاً باستقلاليته (كأن الإسلام لم يؤثر فيه)، بل ظلّ محتفظاً بكامل حريته الفكرية، من دون الاهتمام بالسياسة المستفادة من القرآن، وبدون تقليد سلوك الخلفاء الأربعة وآرائهم في التنظير وإبداء الرأي، على اعتبار أن ما أثبته زياد في سياسته من تنظيم وتدبير، كان قد استلهمه كما يرى هذا المؤرخ، من الثرات العريق الذي كان موجوداً في الكوفة والبصرة. ولم يكن هذا الثرات قائماً أمام عيني زياد وإنما كان أثراً ثقافيّاً وحضاريّاً في سلوك الناس الداخلين في الإسلام، وفي تصوراتهم وأحلامهم، وما يعيشونه في الأجواء والبيئة المحيطة، مما تبقى من آثار أنظمة عظماء حكام الآشوريين والكلدانيين. ويضيف المؤلف كثيراً من حكام بني إسرائيل، فهذا نبي الله داوود في صفاته الجسمانية والخلقية كان زياد يتشبه به في تسريح شعره وإسداله على كتفيه وكان إلى جانبه كثير من الصحابة، وحينما مات داوود شيّعه أربعون راهباً.
هذا المناخ الديني المشحون بأساطير اليهود، والمسيحيين، وثقافة الشعوب البابلية، وأحلام المستضعفين من الأعراب الجائعين هو المناخ الذي استلهمه زياد.
ولكن ما الذي استلهمه زياد من هذا المناخ؟ إنه طبق حكم الطغاة للملكيات الآسيوية القديمة، فأخمد، -يقول لامنس-، الصفات الفطرية والسليقة الشعرية عند العرب، إنه أسس دولة العرب. وكما لم يجعل أفلاطون مكاناً للشعراء في جمهوريته المثالية، طرد زياد الشعراء والفكر بوجه عام من إمبراطوريته فأقبره طوال هذه المدة وقلّده من جاء بعده، مثل الحجاج والسفاح، إلى الآن، لا في الجمهوريات المثالية، وإنما في الواقع وعلى أرض الواقع. إن دولة زياد وإمبراطوريته احتقار الفكر واحتقار الإنسان، لذلك مقضي على هذا النظام بالزوال.
وليس هذا رأي لي وإنما قاله رجل قبلي اسمه ابن رشد في تفسيره لما بعد الطبيعة عند أرسطو، حينما أحس بأن العرب مقضي عليهم بالطرد من الفردوس فقال:
«وأما أهل زماننا، فإنهم يضعون لأفعال الموجودات كلها فاعلاً واحداً بلا واسطة وهو الإله سبحان وتعالى.
وهؤلاء يلزمهم ألّا يكون للموجود من الموجودات فعل خاص طابعه الله عليه، وإذا لم يكن للموجودات أفعال تخصها، لم يكن لها ذوات خاصة، لأن الأفعال إنما اختلفت من قبل اختلاف الذوات، وإذا ارتفعت الذوات، ارتفعت الأسماء والحدود وصار الموجود شيئاً واحداً».
وهذا الرأي هو رأي غريب جداً عن طباع الإنسان، وإنما الذي قادهم إلى القول بذلك، أن سدوا باب النظر، فهم يدعون النظر وينكرون أوائله.
والنظر هو الفكر الذي هو مغلوق، ولا يستطيع أحد أن يفتحه، إلّا بكسر منطق لغة العرب الطبيعية وإنجاز فكر، وهذا موجود وإن كان الناس كعادتهم لا يريدون أن يعترفوا بهذا الانغلاق
________________________________
من مقدمة المؤلف
يمكن أن نلاحظ في تتابع رجال الدولة الثقفيين، ممن دخلوا في خدمة الأسرة الأموية الحاكمة، نوع تدرج في الوفاء والإخلاص إلى الخلفاء الشاميين، ولما كانت هذه السلسلة من رجالات الدولة قد ابتدأها المغيرة، وهو الوالي النموذجي في فترة انتقال، فلا شك أنه ارتبط بطموح النظام الجديد، ولا سيما أنه كان مهتماً بتكوين ثروته الخاصة، وقد استمرت مع زياد ابن أبيه، وبلغت أوجها مع الحجاج بن يوسف الثقفي. إنها سلسلة خدمت أسيادها بطاعة عمياء وخنوع فاحش كما لو أنها هي التي أحدثت وأيقظت أكبر الطغاة من الخلفاء العباسيين. ونقترح في الصفحات التالية رسم تخطيط لموظفين من عمال بني أمية تبرز هيئتهما الأصلية سائر سادات معاصريهما. وهاتان الشخصيتان، مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً أثناء قيامهما بمهمتهما المضطربة، بالإضافة الى أنهما شخصيتان تتميزان بالذكاء والحنكة والمهارة الخارقة للعادة. كما يمتازان بدرجة ولائهما وإخلاصهما للأسرة الحاكمة في الدولة التي أسسها معاوية. وإذا كانت هاتان الشخصيتان، المغيرة وزياد، قد رفعتا من قيمة مواطنيهما وأبناء عمومتهما شهرة واستحقاقاً ودهاء، فإن زياد ابن أبيه والحجاج سيضمنان لهم ذكراً آخر لا يحسدان عليه في السُّنة النبوية وأخلاقها. ولما كانت السُّنة تطلق وصف الطلقاء على أهل قريش الذين تأخروا في الدخول إلى الإسلام، فإنها تخصّ أهل ثقيف بوصف مرادف وهو العتقاء، وهذه صفة من آلاف الصفات الأخرى التي تحبها المدارس العراقية والحجازية حتى تظهر كرهها الشديد لخلفاء دمشق.
التعليقات على الموضوع