زاوية فيلم ورواية
بقلم الأستاذ/ أحمد فكري
عندما تُعادُ المأساة
جيتو هنا.. جيتو هناك
لطالما كان الجدل قائماً بين الفيلم والرواية، أيهما أكثر إثراءً للعقل وأيهما أمتع للشخص، خيال الرواية أم إبهار الفيلم؟ وهل تحويل الرواية إلى فيلم أمر يخدم الرواية أم يضرها؟
اليوم سنفتح معاً أحدث روايات المبدع إلياس خوري"اسمي آدم.. أبناء الجيتو"، تلك الملحمة التي نسجها كاتبنا من أحداث حقيقية كما عودنا في معظم أعماله، وفي تلك الرواية قام بربط الواقع بالخيال بالذاتي، وقام بكسر الحاجز بين كاتب الرواية نفسه وبين بطلها الرئيسي "آدم دانون" وربط أحداثها بأحداث روايته الأشهر "باب الشمس" التي أبدعها خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي والتي تدور أحداثها بين فلسطين وبيروت أثناء وبعد نكبة فلسطين والحرب الأهلية في لبنان.
روايتنا التي يبدأ "آدم" فصلها الأول بكتابة مذكراته وبالحديث عما جرى له مع كاتبنا في إحدى صالات سينما نيويورك حيث تقابلا أول مرة، ويحكي لنا عن مدى حنقه على هذا الكاتب الذي يتوهم معرفة حقيقة ما جرى في الماضي في فلسطين وهو لا يعرف شيئاً،فشخصيات روايته "باب الشمس" كانوا أصدقائه عرفهم وقابلهم وظلمهم الكاتب حين قدمهم في روايته.. إلا أنه لم يكن يتوقع أن ينتهي الحال بمذكراته تلك في يدي هذا الكاتب الذي بغضه. وهنا نعود لمقدمة الرواية والتي هي جزء لا يتجزأ من أحداثها لنرى "الياس خوري" وهو يعرفنا على بطله "آدم" ويحكي لنا كيف وصلت مذكراته تلك إلى يده ومدى تردده في نشرها فيصورة رواية هي تلك التي بين يدينا الآن!!
يمتد بنا السرد بعد ذلك بطريقة بديعة ليأخذنا إلى عالم "وضاح اليمن" هذا الشاعر الذي قتله حبه في صندوق الحب بعد أن لفه الصمت حفاظاً على سره مع حبيبته "أم البنين" زوجة الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك"، الذي دفنه في صندوقه حياً.
ثم تنتقل بنا الأحداث إلى فلسطين وتحديداً مدينة اللد مسقط رأس بطلنا، الذي يشرع في حكي المجزرة التي إرتكبها الصهاينة ضمن أحداث غزوهم لفلسطين عام 1948 وكيف صنعوا "جيتو" وضعوا فيه من تبقى من أهل البلد الفلسطينيين في اللد وفي معظم المدن والقرى التي احتلوها، وذلك من خلال سرد رائع منسوج بعناية يمزج بين الحاضر والماضي والواقع والمتخيل وذلك من خلال فصول سريعة تشبه لقطات السينما.
"جيتو الفلسطينيين" في الرواية يأخذنا ل "جيتو اليهود"الذي صنعه النازيين في ألمانيا وشرق أوروبا، وقد صنع حوله مئات الأفلام العالمية التي تحكي مأساة اليهود ولكننا لن نجد أجمل من رائعة المخرج العالمي "ستيفنسبيلبرغ" الذي أنتجه عام 1993 "قائمة شندلرSchindler's List"، والمأخوذ من رواية الكاتب "توماس كينلي" المعروفة بإسم "فـُلك شندلرSchindler's Ark"، هذا الفيلم الذي صنف من أعظم أفلام السينما في التاريخ والذي يحكي عن جرائم النازية ضد يهود أوروبا وكيف وضعوا في أماكن معزولةقبل أن يتم قتلهم بدم بارد أو حرقهم أحياء، وكيف أنقذ "أوسكار شندلر" عضو الحزب النازي أكثر من 1100 يهودي عن طريق شرائهم مقابل دفعه معظم ثروته بحجة تشغيلهم في مصنعه.
الفيلم مصنوع بحرفية وتفاصيل غاية في الجمال صورت قدر معاناة اليهود من النازية وكم جرائم النازية في حقهم، فلا يمكن أن ننسى مشهد الجنرال النازي "آمونغوث" الذي مثله ببراعة الممثل الإنجليزي "رالف فاينس" وهو يقف في شرفته المطلة على ساحة الجيتو ممسكاً ببندقية القنص وهو يتسلى بإصطياد اليهود، وعندما يصيبه بعض الملل يذهب ليتبول ثم يعود ليكمل تسليته الصباحية!!
هذا المشهد يذكرنا بما حدث في فلسطين منذ أكثر من ثمانية وستون عاماً ومازال يحدث، ووصفه كاتبنا "الياس خوري" في أكثر من عمل أشهرهم روايته "باب الشمس" وروايتنا اليوم والذي يصف في فصولها الأخيرة كيف قضى شباب جيتو اللد أكثر من شهر في جمع جثث أهل اللد من الشوارع بناء على تعليمات القوات الصهيونية التي احتلت المدينة وقتلت أهلها بدم بارد في المسجد والبيوت والطرقات، وكيف أمروهم بحفر مقابر جماعية تشبه تلك التي عرفت وقت مذابح النازية وإلقاء جثث أهلهم التي تركت لأسابيع في شوارع المدينة حتى تفسخت وبدأت في التحلل.
هذا المشهد الذي نجح ببراعة في وصفه يكاد يكون هو أجمل مشاهد الرواية لا يضاهيه سوى مشهد عرس"الحاج إليا بطشون" المسيحي العجوز الذي أسلم ليتزوج من الشابة الجميلة "خلود" التي تصغره بأربعين عاماً، لتأخذها النشوة يوم عرسها لترقص أجمل رقصة للحياة بالرغم من الموت المطل عليهم من خارج أسوار الجيتو.
أخيراً يمكننا القول أننا أمام عملين من أجمل أعمال الرواية والسينما يجمعهم فكرة الحرب والقهر وفجاعة الكارثة، وما يمكننا أن نسميه تحول الضحية إلى جلاد يستمتع بتعذيب ضحيته التي لا ذنب لها فيما حدث له في الماضي بل ويتعمد أن يمارس معها ما مورس معه من قبل بكافة تفاصيله فقط بفارق واحد لا يمكن تجاهله أن الضحية الجديدة -الفلسطيني- لم يجد بعد مئات الأفلام التي تصنع من أجل إيصال مأساته للعالم، لذا لم ينتبه له العالم بعد بالشكل الكافي الذي يمكنه من إنهاء تلك المأساة.
عندما تُعادُ المأساة
جيتو هنا.. جيتو هناك
لطالما كان الجدل قائماً بين الفيلم والرواية، أيهما أكثر إثراءً للعقل وأيهما أمتع للشخص، خيال الرواية أم إبهار الفيلم؟ وهل تحويل الرواية إلى فيلم أمر يخدم الرواية أم يضرها؟
اليوم سنفتح معاً أحدث روايات المبدع إلياس خوري"اسمي آدم.. أبناء الجيتو"، تلك الملحمة التي نسجها كاتبنا من أحداث حقيقية كما عودنا في معظم أعماله، وفي تلك الرواية قام بربط الواقع بالخيال بالذاتي، وقام بكسر الحاجز بين كاتب الرواية نفسه وبين بطلها الرئيسي "آدم دانون" وربط أحداثها بأحداث روايته الأشهر "باب الشمس" التي أبدعها خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي والتي تدور أحداثها بين فلسطين وبيروت أثناء وبعد نكبة فلسطين والحرب الأهلية في لبنان.
روايتنا التي يبدأ "آدم" فصلها الأول بكتابة مذكراته وبالحديث عما جرى له مع كاتبنا في إحدى صالات سينما نيويورك حيث تقابلا أول مرة، ويحكي لنا عن مدى حنقه على هذا الكاتب الذي يتوهم معرفة حقيقة ما جرى في الماضي في فلسطين وهو لا يعرف شيئاً،فشخصيات روايته "باب الشمس" كانوا أصدقائه عرفهم وقابلهم وظلمهم الكاتب حين قدمهم في روايته.. إلا أنه لم يكن يتوقع أن ينتهي الحال بمذكراته تلك في يدي هذا الكاتب الذي بغضه. وهنا نعود لمقدمة الرواية والتي هي جزء لا يتجزأ من أحداثها لنرى "الياس خوري" وهو يعرفنا على بطله "آدم" ويحكي لنا كيف وصلت مذكراته تلك إلى يده ومدى تردده في نشرها فيصورة رواية هي تلك التي بين يدينا الآن!!
يمتد بنا السرد بعد ذلك بطريقة بديعة ليأخذنا إلى عالم "وضاح اليمن" هذا الشاعر الذي قتله حبه في صندوق الحب بعد أن لفه الصمت حفاظاً على سره مع حبيبته "أم البنين" زوجة الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك"، الذي دفنه في صندوقه حياً.
ثم تنتقل بنا الأحداث إلى فلسطين وتحديداً مدينة اللد مسقط رأس بطلنا، الذي يشرع في حكي المجزرة التي إرتكبها الصهاينة ضمن أحداث غزوهم لفلسطين عام 1948 وكيف صنعوا "جيتو" وضعوا فيه من تبقى من أهل البلد الفلسطينيين في اللد وفي معظم المدن والقرى التي احتلوها، وذلك من خلال سرد رائع منسوج بعناية يمزج بين الحاضر والماضي والواقع والمتخيل وذلك من خلال فصول سريعة تشبه لقطات السينما.
"جيتو الفلسطينيين" في الرواية يأخذنا ل "جيتو اليهود"الذي صنعه النازيين في ألمانيا وشرق أوروبا، وقد صنع حوله مئات الأفلام العالمية التي تحكي مأساة اليهود ولكننا لن نجد أجمل من رائعة المخرج العالمي "ستيفنسبيلبرغ" الذي أنتجه عام 1993 "قائمة شندلرSchindler's List"، والمأخوذ من رواية الكاتب "توماس كينلي" المعروفة بإسم "فـُلك شندلرSchindler's Ark"، هذا الفيلم الذي صنف من أعظم أفلام السينما في التاريخ والذي يحكي عن جرائم النازية ضد يهود أوروبا وكيف وضعوا في أماكن معزولةقبل أن يتم قتلهم بدم بارد أو حرقهم أحياء، وكيف أنقذ "أوسكار شندلر" عضو الحزب النازي أكثر من 1100 يهودي عن طريق شرائهم مقابل دفعه معظم ثروته بحجة تشغيلهم في مصنعه.
الفيلم مصنوع بحرفية وتفاصيل غاية في الجمال صورت قدر معاناة اليهود من النازية وكم جرائم النازية في حقهم، فلا يمكن أن ننسى مشهد الجنرال النازي "آمونغوث" الذي مثله ببراعة الممثل الإنجليزي "رالف فاينس" وهو يقف في شرفته المطلة على ساحة الجيتو ممسكاً ببندقية القنص وهو يتسلى بإصطياد اليهود، وعندما يصيبه بعض الملل يذهب ليتبول ثم يعود ليكمل تسليته الصباحية!!
هذا المشهد يذكرنا بما حدث في فلسطين منذ أكثر من ثمانية وستون عاماً ومازال يحدث، ووصفه كاتبنا "الياس خوري" في أكثر من عمل أشهرهم روايته "باب الشمس" وروايتنا اليوم والذي يصف في فصولها الأخيرة كيف قضى شباب جيتو اللد أكثر من شهر في جمع جثث أهل اللد من الشوارع بناء على تعليمات القوات الصهيونية التي احتلت المدينة وقتلت أهلها بدم بارد في المسجد والبيوت والطرقات، وكيف أمروهم بحفر مقابر جماعية تشبه تلك التي عرفت وقت مذابح النازية وإلقاء جثث أهلهم التي تركت لأسابيع في شوارع المدينة حتى تفسخت وبدأت في التحلل.
هذا المشهد الذي نجح ببراعة في وصفه يكاد يكون هو أجمل مشاهد الرواية لا يضاهيه سوى مشهد عرس"الحاج إليا بطشون" المسيحي العجوز الذي أسلم ليتزوج من الشابة الجميلة "خلود" التي تصغره بأربعين عاماً، لتأخذها النشوة يوم عرسها لترقص أجمل رقصة للحياة بالرغم من الموت المطل عليهم من خارج أسوار الجيتو.
أخيراً يمكننا القول أننا أمام عملين من أجمل أعمال الرواية والسينما يجمعهم فكرة الحرب والقهر وفجاعة الكارثة، وما يمكننا أن نسميه تحول الضحية إلى جلاد يستمتع بتعذيب ضحيته التي لا ذنب لها فيما حدث له في الماضي بل ويتعمد أن يمارس معها ما مورس معه من قبل بكافة تفاصيله فقط بفارق واحد لا يمكن تجاهله أن الضحية الجديدة -الفلسطيني- لم يجد بعد مئات الأفلام التي تصنع من أجل إيصال مأساته للعالم، لذا لم ينتبه له العالم بعد بالشكل الكافي الذي يمكنه من إنهاء تلك المأساة.
التعليقات على الموضوع