فـقــه اللـغــة المُـقـــارن
فقه اللغة المقارن ركز علماء اللسانيات مع بداية القرن التاسع عشر على التحليل التاريخي المقارن للغة، بدراسة النصوص المكتوبة، واكتشاف عناصر التشابه بين لغة وأخرى، وملاحظة التغيرات التي تطرأ على اللغة عبر الزمن، ومقارنة التغيرات التاريخية بين اللغات المتشابهة.
توسعت الدراسات اللسانية مع بزوغ شمس القرن العشرين، وشملت اللغات غير المكتوبة، واعتبرت النظرية البنوية أن اللغة نظام مؤسس على بنية شديدة التنظيم، وصارت أحد أهم نظريات اللسانيات مع نشر الكتاب الهام (دروس في اللسانيات العامة Cours de linguistique générale-Course in General Linguistics ) لعالم اللسانيات السويسري فرديناند دو سوسور Ferdinand de Saussure خاصة بعدما اعتبر تلامذة سوسور هذا الكتاب بداية لعلوم اللسانيات الحديثة، واستمروا في عملهم على ما أطلق عليه معلمهم (الخطاب الفعلي Actual speech) وميزه عما سماه المعلومات الكامنة في الخطاب ؛ إذ يرى سوسور أن (الكلام المنطوق = الخطاب الفعلي) يتضمن نماذج instances لقواعد اللغة، ومهمة الباحث اكتشاف القواعد النحوية الكامنة في أي لغة بدراسة نماذج القواعد التي يتضمنها الكلام المنطوق.
ويرى البنيويون في قواعد النحو نظاما للعلاقات مهمته العمل على شرح الخطاب وإيضاحه ، ويختلف هذا المفهوم عن المفهوم الوصفي للغة الذي يعتبر النحو مجموعة نماذج الكلام المنطوق.
وما أن استقر اللسانيون على دراسة اللغة كمنظومة قواعد مجردة لا تتحقق إلا بالخطاب، اهتم دارسون آخرون بدراسة عناصر التشابه بين اللغة وبين أشكال السلوك الإنساني الأخرى انطلاقاً من المفهوم البنوي الذي يعتبر الثقافة الواحدة مؤسسة على بنية مشتركة مكونة من عناصر ثقافية كامنة في هذه الثقافة، فعلى سبيل المثال تجلى اهتمام علماء الإناسة (الأنثربولوجيون ) باللسانيات البنوية في الاستفادة منها لتفسير وتحليل الأساطير والعقائد الدينية، والتعرف على عناصر التشابه فيما بينها للجماعات العرقية المختلفة.
كان لسوسور أثر عميق في علوم اللغة في أوروبا وأمريكا، فطور عالم اللسانيات الأمريكي ليونارد بلومفيلد Leonard Bloomfield مدرسة أمريكية في اللسانيات البنوية إلا أن أثر سوسور بدا أوضح ما يكون في أوروبا خاصة فرنسا و تشيكيا (جزء من تشيكوسلوفاكيا السابقة)، حيث أسس عالم اللسانيات التشيكي فيلم ماثيسيوس Vilem Mathesius حلقة براغ التي ضمت مجموعة من المهتمين، توسعوا في مجالات البحث اللساني، وأدخلوا سياقات الاستخدام اللغوي context of language use وطوروا علم الصوتيات phonology وأثبتوا وجود خصائص مشتركة بين أصوات كل اللغات الإنسانية، وأن نظماً متشابهة تحكم إنتاج الأصوات الإنسانية، وأن جهود اللسانيات التحليلية يجب أن تنصب على اكتشاف خصائص الصوت المميزة أكثر من الاهتمام بطرق جمع صوت مع آخر، وركزت حلقة براغ جهودها للتعرف على الخصائص المشتركة بين الوحدات الصوتية الأساسية المتشابهة في اللغات المختلفة في الوقت الذي انصبت فيه جهود الوصفيين على تحديد وتوصيف كل صوتة في كل لغة معروفة لديهم.
تغير أسلوب البحث اللساني مع نهاية الستينات الميلادية، ولم يعد أسلوب شجرة العائلة اللغوية كافياً للوفاء بالاحتياجات المعرفية المتزايدة في البحث اللساني ، وتشكل منهجا بحثيا جديدا معني بالخصائص المشتركة بين اللغات، ومقارنة البني اللغوية، والقواعد النحوية لأكثر من لغة، والبحث عن فهم أعمق وأكثر واقعية لتاريخ اللغة، وعدم إغفال دور الاحتكاك الثقافي بين لغة ولغات أخرى في تطور هذه اللغة، انطلاقاً من فرضية أن لغة تنحدر منها لغات جديدة يستحيل أن تظل بمنأى عن التأثر والتغير، وأحدثت هذه التطورات تداخلاً معرفياً انفتحت به اللسانيات على العلوم الأخرى، فأخذت منها وأعطتها نظريات ومناهج بحث أدت لنشوء مجالات بحث ومعرفة جديدة عبر تخصصية interdisciplinary تستخدم اللسانيات اعتماداً على مرجعية أبستيمية مشتركة.
التعليقات على الموضوع