هل المطالبة بالحقوق دون القيام بالواجبات تحقيق للعدالة الاجتماعية ؟ مقالة جدلية
I/-المقدمة:(طرح
المشكلة)
إن العدالة كمفهوم مطابق للفضيلة تقوم أساسا على
فكرتي الحق و الواجب . فيراد بالحق انه تلك الظروف التي ينبغي تمنح للفرد في ظل ما
يخوله له القانون , بينما الواجب هو ما ينبغي أن يمنحه الإنسان لغيره . إن النظر إلى واقع المجتمعات يثبت انه يوجد من يؤدي ما ينبغي عليه في أحسن
صورة لكن دون أن ينال ما يستحقه , كما
يوجد من يأخذ حقه دون القيام بأي واجب . هدا ما طرح فكرة الشعور بالظلم ومن ذلك إعادة
النظر في المنهج القادر على تحقيق العدالة الاجتماعية , لكن التباين في خصوصيات الإفراد حال دون
الاتفاق حول فكرة واحدة , حيث أكد البعض من الدارسين انه ينبغي إعطاء لكل ذي حق
حقه انطلاقا من إيمانهم بأنه لا يمكن أن تبنى العدالة في مجتمع لا يحترم الحقوق
.لكن في المقابل نجد من أكد انه إذا قدم كل إنسان ما ينبغي عليه فان ذلك يحقق
الفضيلة في المجتمع . لذا هل من صواب بين الاعتقادين ؟ وهل للواجب علاقة بالعدالة
الاجتماعية ؟أم انه من غير المعقول أن نطالب إنسانا بتأدية ما ينبغي عليه دون أن
نمنحه أية حقوق ؟ بل هل يسبق الحق الواجب أم أن الواجب له أسبقية من اجل تحقيق
العدالة الاجتماعية ؟
II/-التوسيع:(محاولة حل المشكلة)
القضية : " الحق له أسبقية عن الواجب من اجل تحقيق
العدالة الاجتماعية
شرح و تحليل :
يرى فلاسفة القانون الطبيعي وكل المنظمات
الحقوقية أن العدالة تبنى على أساس إعطاء لكل ذي حق حقه انطلاقا من إيمانهم أن
الحق هو معطى طبيعي ارتبط بوجود الإنسان و له أسبقية مطلقة عن الواجب , كما أن
المجتمعات التي آمنت بأسبقية الواجب هي مجتمعات لم تحسن احترام الإنسان , وتعد
تبريرا لأنظمة ديكتاتورية.
البرهنة:
1- المنظمات العالمية
:
أكدت أن تخلي السلطة عن منح الحقوق للأفراد و اكتفائها فقط بالواجبات سوف يؤدي إلى
توسيع الهوة بين الطبقة الحاكمة والمحكومة
, وظهور فكرة الصراع لان الفرد بطبعه يبحث دوما عن حقوقه الضائعة . و هو ما
تجلى من خلال الثورات التحريرية التي وجدت من اجل الحق . أكد نابوليون
" أن هناك قانونا
عالميا لا يتغير أبدا , و هو القانون الذي يرتبط بالحقوق الطبيعية و هو مصدر جميع
القوانين الوضعية , انه العقل الطبيعي الذي يحكم الناس جميعا " . وقد أسست
الثورة الفرنسية قانونا من اجل الإنسان و المواطن " هدف كل جماعة سياسية هو
المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن أن تسقط عنه , هذه الحقوق هي الحرية , الملكية , الأمن
ومقاومة الاضطهاد " . تؤكد المادة الأولى من بيان حقوق الإنسان الصادر بتاريخ
) 10 – 12 – 1948( " يولد الناس جميعهم أحرارا متساوون في
الحقوق و الواجبات و قد وهبوا جميعا عقولا و ضمائر لذا ينبغي أن يعامل بعضهم البعض
بروح
الإخاء
" . أصدرت ولاية فرجينيا
قانونا لحماية الأفراد " جميع الناس
قد خلقوا أحرارا , متساوون و مستقلون , و لهم حقوقا موروثة لا يجوز التخلي عنها
..."
2- فلاسفة العقد الاجتماعي : أكد المفكر
الانجليزي جون لوك " ان الحقوق الطبيعية تهدف إلى بقاء
البشرية وكل تشريع بشري يتنافى معها فهو باطل " . وكذلك أكد المفكر الفرنسي جون جاك روسو " أن
الحرية هي الحياة الطبيعية , و
حرمان الشخص من الحرية معناه نزع حياته " فاذا كان ) روني ديكارت ( يؤكد قيمة الإنسان من خلال قوله " أنا أفكر , إذن أنا موجود " فإن
جون جاك روسو يؤكد " انه إدا كنت حرا فإنك موجود " . و الحرية هنا هي الحياة , أي حياة الإنسان
الكريمة هي تلك المحصنة بالحقوق الأساسية
. هذه الأفكار وجدت قديما عند
"الخطيب الروماني شيشرون " حيث أكد انه لا شيء أشبه بشيء كما هو أشبه
الإنسان بأخيه الإنسان ,لنا جميعا عقلا , و إن كنا مختلفون في العلم فنحن متساوون في
القدرة على التعلم . نفس الطرح نجده عند
" توماس جفرسون " عند تأكيده على مبادئ الاقتصاد الاشتراكي " إن الناس مخلوقون سواء , فهم لم يولدوا مقسمين إلى طبقة أشراف و عامة
..... بل خلقوا طبقة واحدة , أصلحهم أكفؤهم , وليس لأحدهم حق أكثر من الآخر .
"
3 – إن العدالة الإلهية أنصفت الإنسان و منحته الحق
سابقا عن الواجب , إذ لا يمكن أن نعتبر الإنسان مسؤولا دون أن يتمتع بحق الحرية و
التعقل . " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " ) رفع القلم عن ثلاث . عن المجنون حتى يعقل وعن الصبي حتى يحتلم وعن
النائم حتى يستيقظ ( . أكد
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
الحق ينبغي أن يكون سابقا عن الواجب من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية . " متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " . إن المنطق الذي يؤسسه العقل لا
يفرض واجبات على الطفل , بل له الحق في الرعاية و التربية أولا حتى يصير قادرا على
القيام بما ينبغي عليه فعله .
إستنتاج جزئي : إذن الحق يسبق الواجب من أجل تحقيق العدالة .
نــقــد:إن المطالبة بالحقوق دون القيام بالواجبات سوف تؤدي
حتما إلى سيادة التواكل والفوضوية . إن الإنسان بطبعه هو أناني ويريد دوما المزيد
,فيعتقد أن القيام بالواجب هو ظلم له . لكن لا يمكن أن تتحقق العدالة ما لم يقم الأفراد
بما ينبغي عليهم فعله .كما أن العدالة هي غاية و الغاية لابد من أن نسعى إليها ,
لا أن تأتي إلينا.
نقيض
القضية : )الواجب له أسبقية من اجل تحقيق العدالة
الاجتماعية (
شرح و تحليل : يذهب أنصار هذا الطرح للتأكيد على فكرة أساسية
مضمونها أن العدالة ينبغي أن تبنى على فكرة الواجب لأنه إذا قام كل الأفراد بما ينبغي عليهم فإنهم
سوف ينالون حتما الحقوق التي يخولها لهم القانون . ومن تم تتحقق العدالة
الاجتماعية . كما أن التيارات المنادية بأسبقية الحق لا تتجاوز حلقة الشعار .
البرهنة :
1 – ايمانويل كانط : تحدث عن أوامر
قطعية غير مشروطة , و إنما يقوم بها الإنسان
دون إنتظار أي تواب أو مصلحة لأنها أفعال خيرة في حد ذاتها ) قل الصدق , كن متواضعا ,
صن الأمانة , افعل الخير لأنه خير ( هذه الأفعال مطابقة للواجب الأخلاقي الكفيل بتحقيق العدالة كفضيلة أخلاقية . وفي ذلك
يقول " إن الذي يمتنع عن السرقة لأن واجبه يفضي عليه بالإمتناع ولأن عقله
يبين له قبح السرقة هذا وحده يتصرف طبقا للواجب الأخلاقي " . اكد ايمانويل كانط أن الإحسان إلى الغير هو واجب
يعمل على سد الثغرات داخل المجتمع , العمل هو واجب يخدم حاجيات الأفراد داخل
المجتمع . لا يمكن أن يعيش الإنسان من دون
عمل ومن دون معاملة , ومن ذلك إن قدم كل إنسان ما ينبغي عليه تحقق التعامل الفاضل الذي
يوفر الحقوق اللازمة للجميع . أي أنه ينبغي على كل واحد منا أن يطبق الإرادة
الخيرة المنزهة عن كل مصلحة لأنه لا وجود لشيء مستحيل . والمستحيل الذي يتحدث عليه
الجميع هو إنصات للأنانية . يقول كانط " إذا كان يجب عليك فانك تستطيع "
.
أخلاق الواجب عند كانط وجدت في الفكر الإسلامي عند الزاهدة رابعة العدوية ,حيث سئلت عن علة كرهها للشيطان
وحبها الله .فأجابت ) اللهم إني احبك لأني احبك , فان
أحببتك طمعا في الجنة فاحرمني منها ,وإن أحببتك خوفا من جهنم فاحرقني بها (
2 – أوغست كونت : " لا تطالب بالحقوق بل
يكفيك القيام بالواجبات " فإذا قام كل الأفراد بواجباتهم نال كل الناس حقوقهم
. أكد أن الإنسان وجد جزءا من المجتمع .
وكل مجتمع يحمل مبادئ وقوانين ينبغي على كل الأفراد أن يخضعوا لها . لأنه لا يمكن أن
يصنع أفكارا ومبادئ خاصة به بل هو مرغم على أداء ما تمليه عليه الظروف الإجتماعية
. ولعل هذا ما جعل ايميل دوركايم يقول " الإنسان خاضع لقانون جمعي "
3 – النظرية الثيوقراطية : تؤكد نظرية الفيض الإلهي أن كل الحقوق هي ملك
للحاكم بينما الرعية هي مرغمة على القيام بالواجبات قصد تحقيق العدالة الاجتماعية
لا ن الخروج عن طاعة الحاكم هو خروج عن طاعة الإله . فالحاكم هو مفوض إلهيا . قال لويس الرابع عشر "الدولة هي أنا
" . نجاح الاقتصاد الرأسمالي مرتبط بإعطاء الأولوية للواجب , حيث أكد ذلك ادوارد تايلور " أنت هنا لكي تعمل لا لكي
تفكر فهناك من خلق لكي يتقاضى أجرا على ذلك " . بينما فساد الاقتصاد الموجه
قد إرتبط بإعطاء الأولوية للحقوق على حساب الواجبات .
استنتاج جزئي : الواجب له أسبقية في تحقيق العدالة
الاجتماعية .
نــقــد::
قد
تستغل فكرة الواجب لتبرير الظلم والجور , فالحكومات المتسلطة تطالب الأفراد
بالواجبات ولا تمنح لهم الحق اللازم .لا يمكن اعتماد فكرة الواجب كأساس في تحقيق
العدالة مادامت لا تتماشى مع طبيعة الإنسان الأنانية . فالذي يفعل الخير من اجل
الخير هو غير طبيعي . " هدا ما جعل فريدريك نيتشه ينتقد كانط بشدة "
التركيب:
من خلال ما تقدم يتبين لنا أن القيام بالواجب شرط غير كاف لتحقيق العدالة
الاجتماعية . كما أن الحق منعزلا لا يساو ي المساواة الفاضلة التي كانت تسعى إليها
الإنسانية . ومن ذلك ينبغي تحقيق التوازن
بين ما ينبغي أن يمنح للفرد وما ينبغي أن يمنح هو للمجتمع . لأن الإفراط في الحق
يعني التواكل والتفريط في الحق يعني العبودية .
III/-الخاتمة:(حل المشكلة): ختام القول يمكن التأكيد انه لا يمكن أن تبنى العدالة
على أساس التمتع بكل الحقوق فقط . كما لا يمكن أن تبنى على أساس الإرغام فقط بل العدالة هي فضيلة أخلاقية , و الفضيلة هي
وسط بين رذيلتين هما الإفراط و التفريط . فالإفراط في الحقوق يؤدي إلى سيادة
التواكل والفوضوية , لان طبيعة الإنسان الأنانية تبحث دوما عن المزيد وهو ما يكون
على حساب الغير. كما أن التفريط في الحقوق والاتجاه فقط في مسار الواجب يؤدي إلى الشعور بالظلم .
التعليقات على الموضوع