نظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ
ونقد بعض المؤرخين المعاصرين لهذه النظرية
براءة أحمد زيدان
مخطط البحث:
1 ـ المقدمة
2 ـ نشأة ابن خلدون
3 ـ تفسير التاريخ عند ابن خلدون:
أ ـ مرحلة العمران البدوي والعصبية.
ب ـ مرحلة العمران الحضري والحضارة.
4 ـ نقد المؤرخين لنظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ
5 ـ خاتمة.
1 ـ المقدمة:
منذ ظهور تدوين التاريخ عند اليونان, بدأ الاهتمام بتفسير التاريخ, ثم ما لبث أن ازداد الاهتمام به مع الزمن, لغايات متعددة, منها مثلاً: فهم ما حدث, وإدخاله ضمن حقل المعقول. وفهم الحاضر, والاستشراف للمستقبل. واستخلاص الدروس والعبر, بربط الحدث بسببه. وتجنب حدوث ما لا يراد بإزالة سببه, وتيسير حدوث ما يراد بتوفير أسبابه.
ومنذ ذلك الوقت أخذ تفسير التاريخ ومعرفة أسبابه يتطور مع الزمن, ولكن من الملاحظ أنه لا في اليونان, ولا في روما, ولا حتى في بيزنطة, أو بالأحرى في أوروبا الغربية القروسطية, لم يدخل التاريخ في حيز النشاط الثقافي أكثر من دخوله في الثقافة العربية الإسلامية. فالتاريخ في العالم الإسلامي هو علم السنة, لكنه لم يبقَ محصوراً في هذه المهمة الدينية, بل اتخذ مفاهيم جديدة. وابن خلدون يقول عنه: "فتنة التجمعات الأدبية". أما في العالم الإسلامي القروسطي فهو يعتبر مدرسة الحياة السياسية والإدارية والعسكرية.([1])
لقد وصل الرقي بتفسير التاريخ لدى العرب والمسلمين بالسعي إلى اكتشاف قانون أو قاعدة عامة, ناظمة للتطور التاريخي, تندمج فيها منظومة من المسببات الجغرافية والسياسية والسيكولوجية, تسير وفقاً لها عملية تطور التاريخ, وخير مثال على ذلك شيخ المؤرخين العرب ابن خلدون.
لكن قبل الحديث عن هذا المؤرخ العظيم, ونشأته, وتفسيره للتاريخ, لا بد من الإشارة إلى أمر هام جداص, وهو أن التفسير التاريخي غير التعريف التاريخي, فالتعريف: هو ماهية التاريخ, أما التفسير, فهو العوامل المحركة لهذا التاريخ.
وقد ظهرت مدارس واتجاهات مختلفة حول تفسير التاريخ, وبيان الدوافع التي تحرك الأمواج التاريخية الكبرى: فالماديون يرون أن المادة والاقتصاد هما المحركان الرئيسان للتاريخ, وأن كبرى الأحداث التي غمرت الكون نشأت بسبب الصراع على المادة. ويتخذون من حرب طروادة, ومن الصراع القديم بين الفرس واليونان مثالاً. ومن أبرز من تبنى هذا الاتجاه الفكر الماركسي([2]).
ولا يخفى على القارئ أهمية هذا البحث, فابن خلدون مفكر مهم جداً, والفترة التي عاش فيها, هي القرن الرابع عشر الميلادي, قد طرأ عليه تبدلات وتطورات كبيرة, فكان عصر تحول وانتقال. وقد استغرق البحث في هذا الموضوع مني وقتاً طويلاً, بسبب كثرة المصادر والمراجع التي تحدثت عنه, وتنوع الدراسات التي تناولته من جهات خاصة ومتعددة.
2 ـ نشأة ابن خلدون:
هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي, ولد في تونس سنة (732هـ / 1332م), وتوفي سنة (808 هـ / 1406م). درس خلال حياته العلوم الدينية, واللغوية, والفلسفية, والرياضية. وتتلمذ على يد الآبّلي أشهر فلاسفة عصره, وهو الفيلسوف المغربي, شارح ومكمل فلسفة العقلانيين العظام, أمثال ابن رشد, وابن سينا, والفارابي, والرازي. وبفضل هذا الفيلسوف الكبير استفاد ابن خلدون طوال ثلاث سنوات من تعليم فلسفي, وتكوين عقلاني فريد بالنسبة لتلك المرحلة التي سادت فيها (الظلامية). وأكسبه أستاذه الآبّلي (تكويناً منطقياً) بالغ القوة, وأتاح له فهم أفكار الفلاسفة العظام.
إن تكوين ابن خلدون بادئ ذي بدء لم يكن تكوين مؤرخ, ولم يكن يُعنى بالتاريخ إلا بعد أن بلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً, فتوجهه الأول كان فلسفياً, والتقاؤه بالتاريخ كان عرضياً مفاجئاً. لقد انعزل في قلعة بني سلامة في سنة 776هـ, واتجه إلى التاريخ, يستفتيه الدروس والعبر, نتيجة وضع العصر الذي عاش فيه, ونتيجة ثقافته أيضاً, فابن خلدون لم يكن كغيره من المؤرخين الذين سبقوه, وأعطوا التاريخ معنى سردياً قصصياً, بل إن ابن خلدون بوصفه رجل دولة, كان يعرف تماماً أن العوامل التاريخية لا توجد جميعاً في ساحات القتال, أو في القصور, بل كان يريد البحث عنها منهجياً في مختلف صعد الحياة: الاقتصادية والاجتماعية, لأن القلق الذي مني به المغرب في تلك الفترة جعله يأخذ بعين الاعتبار أن الخيبات التي لحقت به ليست سوى أحد المظاهر الضئيلة لظاهرة عامة حاول أن يفهمها([3]).
لقد بحث في الماضي, أو بالأحرى اكتشف الحوار الجدي بين الماضي والحاضر, ذلك أن مشاكل الحاضر تدفعنا للرجوع إلى الماضي, أي إلى التاريخ, بحثاً عن الأسباب السابقة, والوقائع المماثلة لتلك التي نعيشها, لذلك فقد عالج ابن خلدون الوقائع الملموسة, واستفاد من المؤرخين وعالج أغلاطهم, وكانوا جزءً من التجربة التي أقدم عليها في كتابة التاريخ([4]).
3 ـ تفسير التاريخ عند ابن خلدون:
لقد كان ابن خلدون شاهد عيان لحقبة من الفوضى والانحلال والانهيار, عاشها المغرب الإسلامي بخاصة, والعالم العربي بعامة, إبان القرن الرابع عشر الميلادي, فلقد سعى ابن خلدون للتعرف إلى الأسباب العميقة لذلك الحال, ومن خلال بحثه عن تلك الأسباب توصل إلى مفهوم شامل للمجتمع, وتطوره الكلي, وخرج بنظرية دعيت (دورة العمران) في تفسير التاريخ.
تشير نظريته هذه إلى أن تطور المجتمع مرّ بمرحلتين أساسيتين, وتشهد كل مرحلة منهما تطورات بشكل دائم, يؤسس كل تطور منها لما بعده, وتتسم بسمات معينة في جميع مناحي الحياة. وهاتان المرحلتان هما: مرحلة العمران البدوي (العصبية), والثانية, مرحلة العمران الحضري والحضارة.
وحتى نفهم المقصود, لابد لنا من تعريف العمران عند ابن خلدون, وهو عنده: "التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير, واقتضاء الحاجاتلما في طباعهم من التعاون على المعاش"([5]).
إذاً, فكلمة (عمران) عند ابن خلدون تعني القضايا الديمغرافية والاقتصادية, والنشاطات الاجتماعية والسياسية, والثقافية... أي كل ما يتعلق بالإنسان. فلذلك هو يريد البحث في طبيعة العمران للخليقة, و"ما يعرض فيها, من البدو, والحضر, والتغلب, والكسب, والمعاش, والصنائع, ونحوها, وما لذلك من العلل والأسباب"([6]).
وفي مقدمة ابن خلدون نجد أنه يشير في عدة مواقع إلى طبيعة الملك, وطبيعة العصبية, وطبائع الأكوان, وطبيعة الوجود. فطبيعة العمران لديه هي تعليل جميع أحوال العمران بأسباب طبيعية, وقوانين حتمية. أي إن الظواهر الإنسانية لدى ابن خلدون مقيدة بقوانين طبيعة كغيرها من ظواهر الطبيعة.
أ ـ العمران البدوي:
هو الذي يكون في الضواحي والجبال, والحلل المنتجة من القفار, وأطراف الرمال([7]). والذي يهمنا في العمران البدوي هو العصبية. نحن نعلم تماماً أن معنى العصبية قد شُرح شروحاً كثيرة عند المؤرخين, فبعضهم فسرها بالنبل, وبعضهم فسرها بالفضيلة, وبعضهم أيضاً فسرها بالتعصب القبلي....أما ابن خلدون فقد فسرها بمعنى آخر, وشرطها الأساسي عنده هو وجود البنى القبلية: "إن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية, إن العمران البدوي يصون العصبية, ويحفظ اتجاه تأثير الترف الموهن, وإن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب, ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة.. فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة"([8]).
إذاً هو يريد القول أن العصبية هي نزعة طبيعية في البشر تؤدي إلى الاتحاد والالتحام والتعاضد بين أفراد النسب الواحد, وترجع إلى صلة الرحم. وأهل النسب يتعاونون على دفع العدوان عن أنفسهم فكلما كانت القرابة أدنى كانت العصبية أقوى.
أما في النشاطات الحربية فتعبر العصبية من خلالها عن تماسك الفئة القبلية, لكن التخلي عن النشاطات الحربية يسبب زوال العصبية: "وأما العدوان من الذي خارج المدينة, فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو العزة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً....وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم, ولا يصدق دفاعهم وديارهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد, لأنهم بذلك تشتد شوكتهم, ويخشى جانبهم.([9]).
ويتابع قوله: "إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها, فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها, فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة, ومن عجز عن المدافعة, فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة, وإذا كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاعها أذعن ذلك القبيلة لولايتها, والقنوع بما يسوغون من نعمتها, ويشركون من جبايتها"([10]).
إذاً, من كل ما تقدم نستطيع القول أن المقاطع السابقة تدلنا على صفات هامة جداً يتمتع بها هؤلاء البدو اهل العصبية, وأول صفة هي: الخير, وهذا واضح من خلال التضامن بينهم. والثانية: الشجاعة. ويتحدث لنا عن أمر هام جداً وهو تضامن القبيلة الحربي, فهو شرط أساسي للعصبية, لكنه ليس كافياً, فلا بد من وجود رئيس, هذا الرئيس يجب أن يكون له دور قيادي يقود القبيلة من خلاله, وتدعمه عائلته. إذاً, العصبية بنظر ابن خلدون, سياسية([11]).
ويقول ابن خلدون: "العصبية تكون بها المقاومة والحماية والمطالبة, ولا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية, لأن الرئاسة هي سؤدد, وصاحبها متبوع, ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية, التي يكون بها متبوعاً, فالتغلب الملكي غاية للعصبية".
من المقطع السابق نستطيع القول: إن العصبية لكي تتطور يجب لها أن تقوم في قلب القبيلة, وهذا ما يسميه ابن خلدون بالرئاسة, التي هي قوة الواقع, لا قة استقراطية ما, أي قوة عائلة كبيرة ذات قوة فعلية ضمنية, أما غاية العصبية فهو الملك. إذاً, لا عصبية بدون ملك, ولا رئاسة, فهما الأساس, وبدنهما لا توجد عصبية.
ويقول ابن خلدون: "إذا تمكن سيد القوم من فرض الطاعة لأوامره فإنه يدخل سبيل السيطرة واستخدام الضغط...ولأجل بلوغ هدفه يستند على تابعية الدين, بواسطتهم حقق إخضاع شعبه. إن تأثير العصبية يؤدي إلى الاستيلاء على الدولة والقبيلة التي يسيطر عليها هذا الشعور, وتستولي على الحكم, سواء عن طريق الفتح, أم عن طريق القيام بخدمة السلالة الحاكمة"([12]).
إذاً, من خلال هذا المقطع يبين ابن خلدون كيف يصل السيد إلى السيطرة على قومه, فهو يتخذ الدين كستار ليصل إلى مآربه السياسية التي هي الأساس, ولعل هذا الأمر يذكرنا بالدولة العثمانية التي اتخذت من الدين ستاراً لتحقيق أهدافها السياسية, وليس السياسية فحسب بل الاقتصادية والاجتماعية, وذلك أثناء حكمها للوطن العربي.
ونستطيع القول أيضاً, إن دور الديمقراطية العسكرية والارستقراطية القبلية هما عاملان أساسيان, يشعلان العصبية, فالعمران البدوي هو شرط في وجود العصبية, لكن هذه العصبية لا توجد عند سائر السكان الريفيين, لذلك فابن خلدون ميّز لنا بين فئتين: الأولى, هي التي تكون العصبية فيها قادرة على جعلها مؤسسة امبراطورية, والثانية, هم البدو الرحل, وهم غير قادرين على تأسيس دولة, أي أنهم لا يتمعتون بعصبية([13]).
يقول ابن خلدون: "وهؤلاء هم العرب, وفي معناهم ظعون البربر وزناتة المغرب, إلا أن العرب أبعد نجمة, وأشد بداوة, لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط, والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم, أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض, للغلظة والأنفة, وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة, فقلما تجتمع أهواؤهم.... فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك التوحش, فإن ملكوا أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم, وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم, وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات, وتحصيل الفوائد, فلا يكون وازعاً, وربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد, واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه. فتنحو المفاسد بذلك, ويقع تخريب العمران .... فتبقى الرعايات في ملكهم كأنها فوضى دون حكم. والفوضى مهلكة للبشر.... بما ذكرناه من أن وجود الملك خاصة طبيعة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلا بها"([14]).
في هذه المرحلة, مرحلة العمران البدوي, نلاحظ أن ابن خلدون قد ركز على مفهوم العصبية فيها, فكان لها معنى إيجابياً, واعتبر العصبية أساساً لقيام القبيلة وقوتها, فرابطة الدم والدين هامة لقيام العصبية, لكن الأساس في قيام القبيلة هو دور الديموقراطية العسكرية, والأرستقراطية القبلية, فهما عاملان أساسيان لوجود القبيلةة. وهذا يدلنا على أن العصبية معناها سياسي. وبما أن ابن خلدون كان رجل دولة وسياسة, فمفهومه للعصبية يفسر لنا معنى اهتماماته السياسية.
وهذا المفهوم قائم إلى يومنا هذا, إلا أنه يتخذ أسلوباً جديداً. إذاً, فمرحلة العمران البدوي تضم البدو وسكان الريف أيضاً, فالعصبية لا تقوم دون ملك أو رياسة, والملك هو غاية العصبية.
ب ـ مرحلة العمران الحضري والحضارة:
العمران الحضري عند ابن خلدون هو الذي يكون بالأمصار والمدن للاعتصام بها, والتحصن بجدرانها.
إن العصبية في العمران البدوي هامة وذات صفة إيجابية, لأنها غاية بحد ذاتها من أجل قوة القبيلة, والعصبية في العمران الحضري أيضاً لها صفة إيجابية, فهي المحرك الأساس لصيرورة الدولة. إذاً, هي أيضاً ذات صفة سياسية بحتة, لكن في العمران الحضري نلاحظ أن العصبية أصبحت عقبة في وجه رئيس الدولة يسعى إلى تخطيها, لأن هدفه هنا هو إقامة سلالة حاكمة دائمة, وجمع المال, بل والحصول على أكبر قدر ممكن منه, لذلك نلاحظ بناءه للدولة يمر بأطوار, لكن دولته هذه تأخذ بالتفتت من الطور الثاني([15]).
يقول ابن خلدون في هذا الصدد: "فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين, ودول متعاقبة, نسيت النفوس شأن الأولية, واستحكمت الأصل ذلك النصاب صبغة الرئاسة, ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم, وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية, فلم يحتاجوا في أمرهم إلى كبير عصابة.... ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم, ودولتهم المخصوصة, إما بالموالي والمصطفين الذين نشؤوا في ظل العصبية وغيرها, وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها, الداخلين في ولايتها, فيكون صاحب الدولة في هذا الطور, طور الاستبداد على قومه, والانفراد دونهم بالملك, وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة, ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي له, والاستكثار من ذلك لجدع أنف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه... حتى يقر الأمر في نصابه, ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده, فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد"([16]).
يدلنا ابن خلدون هنا على الأطوار الخمسة التي تمر بها الدولة, والتي تؤدي إلى تهديم العصبية, وهي:
1 ـ الظفر بالبغية, 2 ـ الانفراد بالمجد, 3 ـ الدعة والفراغ, 4 ـ طور القنوع والمسالمة, 5 ـ طور الإسراف والتبذير.
إذاً, نلاحظ أن الدولة منذ الطور الثاني تبدأ بالتراجع, فهي تسير بنظام تدريجي تحافظ عليه, وتتسع حتى تصل إلى أقصى حدودها, من ثم تأخذ بالتقلص والتضيق حتى ينتهي ذلك بها إلى الانقراض([17]).
فالعصبية في العمران الحضري, لها معنى إيجابي أيضاً, فهي البنية الاجتماعية والسياسية التي تحدد الانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري. ويعتبر ابن خلدون أن انهيار العصبية سببه سكان الحواضر, وذلك بسبب انغماسهم بالترف, الذي يؤدي إلى انهيار العصبية, وهو يرى أن كمال الحضارة يكون عند نهاية الدولة في استفحالها, لذلك فهو يقول: "إن كمال الحضارة إنما يكون عند نهاية الدولة في استفحالها, والإعصار بطولها, وانفساح أمدها, وتكرار أمثالها. تزيدها "أي الحضارة" استكمالاً ورسوخاً. إن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص... فهذا كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون عمر الدولة... وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما قرب, ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر, بتقريب قبله أو بعده"([18]).
لقد أدرك ابن خلدون تماماً أن العصبية لا بد لها من الزوال حتى تفسح المجال للسلطة الملكية بالظهور. وقد شرح لنا ذلك في مقدمته (ص 311 ـ 381). لقد كان هدفه, أو بالأحرى كان يحلم بقيام دول مستقرة, قوية, يوجد فيها ملك يمسك بزمام الأمور ضد كل أنواع الطامعين, لقد شهد انهيار الدول, فكان حلمه بإقامة دولة واحدة توحد المغرب, لكن كان له مآخذ على سكان إفريقيا الشمالية القروسطية, وهو أنهم لم يشكلوا بورجوازية, وهو أيضاً لم يشكل هذا المفهوم لكنه أشار إليه. لقد أدرك تماماً الفروق القائمة بين العمران البدوي والعمران الحضري, بل بين صفات البدو وصفات أهل المدن, فأوضح لنا تلك الصفات, والعلاقة القائمة بين الطرفين, أي كيفية التطور التدريجي من العمران البدوي إلى العمران الحضري. لقد كان هدفه الرئيس البحث عن الأسباب العميقة للأحداث التاريخية في تطور البنى الاجتماعية, وذلك يبدو لنا واضحاً من خلال ما عرضه ابن خلدون في مقدمته في (ص 6) عندما قال: "وسلكت في تربيته وتبويبه مسلكاً غريباً, واخترته من بين المناحي مذهباً عجيباً, وطريقة مبتدعة, وأسلوباً, وشرعت فيه من أحوال العمران والتمدن, وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية, ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها, ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها".
لقد أدرك ابن خلدون تماماً أن أصالة مفهومه للتاريخ تكمن بين دراسة العمران, وبين الأحداث السياسسية والعسكرية, ولفت نظرنا إلى أمر جدّ هام هو مسألة التخلف, التي يعاني منها مجتمعنا حتى وقتنا الحاضر([19]).
4 ـ نقد المؤرخين لنظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ:
في كتابه "العلامة ابن خلدون" يقول الكاتب إيف لاكوست: "إن التاريخ عند ابن خلدون هو تعاقب أدوار الحضارة والدولة, وكل من هذه الأدوار يفضي إلى الانحدار والكارثة, وحتى تطور كل هذه الحضارات يحمل انهياره, لأن التضامن الاجتماعي, وهو قاعدة الدولة يكون قد تدمر بواسطة الترف الذي يفسد المواطنين, وإنما يكون التطور التاريخي محدد بعوامل نفسية. إن هذه الفلسفة إذاً هي فلسفة قدرية بصورة خاصة, وتشاؤمية. أما المفهوم الدوري للعودة الأبدية التي يفرضها, فهو يتعارض مع تطور الفكر التاريخي الحق, فإذا ما أتيح لفلسفة التاريخ أن تنبثق عن مؤلف ابن خلدون فلهذا لا يكون له معنى شامل. إن نظريات ابن خلدون ليس لها معنى شامل, ولا قيمة أبدية, لقد أشار المؤرخ بوضوح إلى الفوارق القائمة بين المغرب وبين بلدان الشرق الأوسط, وأوضح أن العصبية, وهي المفهوم الأساسي, لا تطبع بشكل جوهري إلا إفريقيا الشمالية بنوع خاص, ولكنه بيّن أيضاً أن العصبية ليست ظاهرة أبدية, فهذه البنية الاجتماعية السياسية بالنسبة له قد انوجدت سابقاً في الشرق, إلا أنها زالت في القرن الرابع عشر الميلادي, ومن حديثه عن الدولة نلاحظ أنه يعلق أن كل الدول قد انحدرت, وستنحدر في المستقبل, لكنه لا يحدد بأن الأسباب وكيفيات انحدارها ستكون ذات الأسباب والكيفيات التي أدت إلى انهيار الممالك المغربية. إذاً, نظريته لا تشكل نظرة ميتافيزيقية مصممة مسبقاً, ومنطبقة على التاريخ الشامل, فهي تنبثق عن المراقبة الحكيمة لظروف المغرب فيما بين القرن التاسع والرابع عشر الميلادي, وهي ليست فلسفة للتاريخ بمقدار ما هي تأليف تاريخي لأحداث طرأت على بلد معين في عصر معين"([20]).
أما جانجي موريس ففي مقالة له في مجلة المعرفة تحمل عنوان "مقدمة في معنى التاريخ", يرى أن "بيان رؤية ابن خلدون العلمية في فهم التاريخ لا على أنها عرض لحوادث سياسية أو عسكرية متعاقبة, أو تتابع لسير ملوك وأصحاب جاه وسلطان, بل بيان لتطور الشعوب العقلي والمادي"([21]).
أيضاً, بوتولد أشبولر, ذكر " أن التاريخ هو علم له موضوع ومنهج خاص, وتحكمه قوانين ثابتة, ويعد في مقدمة من طبقوا ذلك على علم العمران البشري أو علم الاجتماع ابن خلدون"([22]).
وكتب الدكتور ساطع الحصري أيضاً بحثاً ألقاه في مهرجان الرباط, دافع فيه دفاعاً كبيراً عن ابن خلدون. وفي كتابه "دراسات في مقدمة ابن خلدون" يرى أن "نظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ هي بمثابة خط واصل بين نظرية أرسطو القديمة, ونظرية هوبز, وقد اعتبر ابن خلدون أن الاجتماع أو العمران الطبيعي في البشر مثل العدوان فيهم, فربط فكرة الدولة والملك, والوازع أو الحاكم بمبدأ العمران من جهة, ومبدأ العدوان من جهة ثانية, فهذا الذي يولد الحكم والملك بوجه عام, والدولة بوجه خاص, ولقد ميّز ابن خلدون بين حكم البدو, وبين حكم الحضر, فوجد أن حكم البدو أشجع, لكن سلطته مستمرة([23]).
أما د. علي أومليل في مقالة له في مجلة الفكر العربي عنوانها "مصادر التنظير عند ابن خلدون" نلاحظه يقول: "لاعتبارات لا مجال للتفصيل فيها هنا, سأعتبر ابن خلدون أساساً مؤرخاً, ألف تاريخاً, وأقام نظرية في التاريخ. لكن ما العلاقة بين نظريته في التاريخ وبين التاريخ الذي ألفه هو نفسه؟ فقيل قيل مراراً أنه حين كتب المقدمة كان منظراً للتاريخ لا نجد له مثيلاً بين المؤرخين, ولكنه حين كتب تاريخه فقط, فقد كتبه كما فعل غيره من المؤرخين الذين انتقدهم هو نفسه, وتكون النتيجة أن ابن خلدون المبدع إنما هو صاحب المقدمة لا صاحب التاريخ, فنظريته في التاريخ تميل إلى تاريخ معين, هو التاريخ كما كان يعرفه ابن خلدون. لكن ما هو هذا التاريخ الذي تميل إليه نظرية ابن خلدون؟ التاريخ عنده سيرورة العمران, والتأريخ هو تدوين هذه السيرورة, أو ما يعتبر منها يستحق التدوين, وبعبارة أخرى: التأريخ علم سيرورة العمران. ولكي يكون هذا التأريخ علماً صحيحاً بهذه السيرورة فينبغي أن يواكب العمران كسيرورة. ذلك ان العمران بطبيعته متغير, وتغير العمران يجري عادة على نحوين: تغير عادي: كل جيل يرث تراث أسلافه, ولكنه لا يقتصر على تكرارها, أي على محض إعادة إنتاجها, بل يضيف إليها من أحواله كجيل شيئاً, ولا يسلمها إلى الجيل اللاحق الذي يعيد إنتاجها مع إضافة. وهكذا يتراكم التغيير الذي لا يلحظ كثيراً على مستوى الجيل الواحد, فهو لا يكون عنيفاً وصادقاً لما يتداوله الناس من تراث, ولكن بتراكم الإضافات عبر عدة أجيال, تصل أجيال لاحقة إلى أن تختلف أساساً عن أسلاف لها بعيدة, أي إلى (المباينة بالجملة) كما يعبر ابن خلدون, ولكن التغير الجذري في أحوال (الاجتماع الإنساني) قد يكون عنيفاً وسريعاً, وهنا يفرد ابن خلدون مصطلحات خاصة حتى يتحدث عن مثل هذا التغيير الجارف, مثل (انقلاب) ومشتقاته, "وتبدلت الأحوال بالجملة", فالذي حصل هو أن التاريخ قد شهد تحولات وانقلابات, ولكن علم التاريخ ظل جامداً, ليس فقط في طرقه ومفاهيمه, بل وفي سرود أنتجت في نسق تاريخي معين, ومن أجل فئات معينة. ولكن المؤرخين والمقلدين ظلوا يكررون السرد كما هو, وهم لا يدرون كيف أنتج, ومن أجل من أنتج, وحين سقطت الكتابة التاريخية في التقليد الذي هيمن على مجموع العالم الإسلامي تأكد الانقطاع بين التاريخ وعلم التاريخ, أي بين التاريخ والخطاب التاريخي, ولذا فقد تجمد التاريخ في خطاب يتعاقب على تكراره المؤرخون, في حين أن التاريخ (أي سيرورة العمران) قد شهد تغيرات وانقلابات عدة. تغير التاريخ, ولكن الخطاب عنه ظل مجمداً, فحدث إذن انقطاع بين التاريخ والخطاب التاريخي, ومشروع ابن خلدون ينطلق من محاولة إحداث انقلاب في الخطاب التاريخي مكافئ للإنقلاب الذي حدث في الشارع, وبخاصة في عصره, وهذه هي الدلالة الأساسية للمقدمة"([24]).
وفي مجلة المورد العراقية يبين د. مطلب مجيد محمود رفض ابن خلدون للمنهجية السلفية, التي خلقت ركاماً من السرد التاريخي للأحداث, وأخذه بقانون السببية, الذي يعطي للحوادث التاريخية عللها الحقيقية والواقعية. وقد وجه نقداً لفكر ابن خلدون الاجتماعي المتعلق بمجتمع البدو والحضر في مقدمته المشهورة, وأكثر من إبراز جوانبه الإيجابية وفضله على الدراسات الاجتماعية. فهو مثلاً يأخذ عليه تعميماته التي يطلقها على حياة مجتمع البدو والحضر دون الأخذ بنظر الاعتبار التدرج الاجتماعي السائد فيها آنذاك, فهو يقول: "لا يمكن اعتبار غاية البدوي إذن التمدن, لأنه لم يتمدن هو نفسه, بل أحفاده الذين تمدنوا, ومن هذه الحقيقة إن ابن خلدون وقع في خطأ مضاعف عندما لم يذكر من هي الفئة الاجتماعية التي انتقلت من المجتمع البدوي إلى الحضري, وتعميمه لظاهرة جزئية على الظواهر الاجتماعية كافة, وتناقض وصفه لعملية جذب الأفراد, أفراد المجتمع البدوي إلى الحضري بواسطة التمدن"([25]).
ولعل أجمل ما كُتب في تقييم نظرية ابن خلدون في تفسيره للتاريخ, هو ما كتبه المؤرخ إيف لاكوست, وعلي أومليل, اللذان كان لهما وجهة نظر ثاقبة ومتبصرة في دراسة المقدمة بكل أبعادها التاريخية, وهذا لا يعني الانتقاص من قدر المؤرخين الآخرين, بل إنهم كتبوا فأحسنوا, ولكن يبقى ما ذكرته عن أومليل ولاكوست مجرد رأي وإعجاب خاصين.
ومن الجدير بالذكر أن ابن خلدون المغربي الفذ, مؤرخ القرن الرابع عشر الميلادي, يمكن اعتباره من مؤرخي القرن العشرين, فقد طرح قضايا جدّ هامة, وهي تدرس إلى يومنا هذا. لقد استطاع أن يعطينا تفسيراً تاريخياً من خلال تأثيرات عصره, ومن خلال ثقافته التي تدل على عمق فكري وسع, وخاصة أنه سليل أسرة عريقة في النسب والعلم. صحيح أنه لم يبرهن على كل ما طرحه, إلا أنه ليس معصوماً عن الخطأ, وكتابه ليس معجزة, لكنه بحق مؤرخ الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع عشر الميلادي, ونظريته جد هامة في وقتنا الحاضر, وهي تساعدنا في حل مشكلاتنا المعاصرة.
5 ـ الخاتمة:
إن تفسير ابن خلدون للتاريخ في إطار علم العمران البشري, لا يدخله في عداد مؤسسي فلسفة التاريخ فحسب, بل يدخله في عداد مؤسسي علم الاجتماع, وعلم الأنتربولوجيا الحضاري. لقد لفتت مقدمته أنظار العلماء العرب والأوروبيين. فصاحب المقدمة الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي قد سبق غيره من العلماء إلى وضع حجر الأساس في فلسفة التاريخ, وتفسير التاريخ بوصفه علماً, فهو الرائد وهم التابعون, ولا يعاب عليه أنه لم يستطع أن يستوفي جميع مسائل هذا العلم, وأنه لم ينوه بموضوعه ومنهجه إلا على سبيل الإجمال, لكنه كان يرجو أن يأتي من بعده علماء يواصلون أبحاثه, فلم تتحقق آماله إلى على أيدي الأوروبيين. ومع ذلك فإن مقدمته أثّرت في عقول ساسة الشرق تأثيراً عميقاً, ولو لم يدخل العالم العربي بعد عصر ابن خلدون في سبات عميق لاتجهت الفلسفة العربية بتأثيره اتجاهاً وضعياً جديداً بعيداً عن النظريات الغيبية التي سيطرت عليها خلال العصور السابقة.
لقد تساءل عن أسباب قيام الدول وسقوطها, وعوامل تزاحمها وتعاقبها, بل إنه ربط الحاضر بالماضي, فطرح على أساس ذلك مشكلة الحضارة العربية الإسلامية كلها, وأجاب عن أسباب ذلك الانهيار والتخلف, من خلال دراسة البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمغرب العربي الواسع, في القرن الرابع عشر الميلادي.
لن يتم تجاوز التخلف إلا بالثورة عليه, من خلال العمل الإنساني النوعي الاجتماعي, الهادف, الذي يعترف بأية حقيقة خارجة عن نطاق الأحوال الداخلية. إن الجانب المشرق من فكر ابن خلدون سيبقى بدون آفاق إذا لم نجد من يطوره, ومحاولة بعثه من جديد في حياتنا الفكرية على نحو خلاق يتطلب توحيد الجوانب العلمية التقدمية فيه, مع الجوانب الأكثر تقدماً وتطوراً من أشكال التاريخ المعاصر وعلم الاجتماع.
وإذا عرّف ابن خلدون التاريخ بوصفه علماً, فإني بدوري أقول إنه علم وفن وفلسفة. هو علم عندما يعلمنا أسس الكتابة التاريخية, وفن, عندما يحتاج الكاتب أو بالأحرى, المؤرخ إلى تعبير أدبي يكسو به موضوعه أو بحثه التاريخي, وفلسفة, عندما يفلسف التاريخ, من خلال تعليل الحوادث وأسبابها.
والتاريخ هو جوار الماضي والحاضر, استشراف للمستقبل, والغاية منه ليس فقط العبرة وأخذ الدروس, وإنما البحث عن الحقيقة. فهو علم إنساني, تبقى مادته أصعب المواد, وهي الإنسان. وعلينا أن نفرق بين التأريخ الذي يعني علم تدوين الماضي, وبين التاريخ الذي يعني الماضي نفسه.
إنني أنحني إجلالاً لذلك المؤرخ الفذّ الذي أطلعنا على أمور هامة من تراثنا العربي, كانت غامضة, وإنني أتوجه باقتراح لجامعة دمشق, بأن تدرس ولو كتيباً صغيراً في قسم التاريخ يبحث في منهجية ابن خلدون وتفسيره للتاريخ, حتى يستطيع جميع طلاب التاريخ دراسة أهم أفكار هذا المؤرخ العبقري, والاستفادة منها في أبحاثهم المستقبلية, أو في حياتهم العملية.
كما أرجو أن أكون قد وفقت في تسليط ضوء بسيط على نظرية ابن خلدون, فإن أصبت فمن فضل الله وتوفيقه, وإن أخطأت فمن نفسي, والله ولي التوفيق.
التعليقات على الموضوع