تحليل نص إذا كان الاستقراء (العلمي) هو الحكم على الكلي بما حكم به على بعض جزئياته ؟ فهل هناك ما يبر ّر مشروعيته أو ما يبرر قانون التعميم؟
1. طرح المشكلة: أ- المدخل: إن مصطلح الاستقراء في التداول المنطقي يعني: الحكم على الكليات بما ثبت في جزئياتها. ومثاله أن يختبر العالم بعض عينات من المعادن، فيعرضها للحرارة، ويعمم الحكم في قوله: أن (كل أفرادها يتمدد بالحرارة)، وهنا ينقل الحكم من الجزء إلى الكل. ومعنى ذلك، أن الاستقراء قائم على مبدأ التعميم الذي يقضي بأن ما يصدق على الجزء يصدق على الكل.
ب- المسار: ولكن إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه القاعدة صحيحة ما دامت التجربة لم تتناول كل أفراد الظاهرة ، بل بعض العينات منها. إن هذا التعميم ينتهي بنا إلى إشكال منطقي، وهو ما يصدق على الجزء لا يصدق بالضرورة على الكل .
ج- السؤال: وهكذا نطرح هنا مشكلة الأساس المنطقي الذي يسمح بالانتقال من ملاحظة بعض أفراد الظاهرة إلى حكم كلي يشمل كل أفرادها، فهل يجوز تعميم الحكم ؟ أليس في ذلك مجازفة ومخاطرة ؟ وبالتالي ما الذي يبرر مشروعية الاستقراء ؟
1- منطقها: دافيد هيوم أول من أثار الشك في مشروعية الاستقراء، وقال بعدم جواز الانتقال من الجزء إلى الكل لأنه انتقال غير مبرر في نظره .
2- مسلمانها وما تستوجبه من برهنة:
لقد وجد «هيوم» الاستقراء المعتمد كمنهج للعلم، وما يتمتع به من ثقة لدى العلماء، ليس له ما يبرره، لا من الوجهة المنطقية ولا من الوجهة التجريبية :
فمن الوجهة الصورية (المنطقية): إننا نحكم على المستقبل بحكم الماضي، معتقدين مماثل الماضي والمستقبل، لكن هذا الاعتقاد لا تبرره أية ضرورة منطقية، فلا مانع عقلا أن يخالف المستقبل الماضي، فإشراق الشمس اليوم كما أشرقت بالأمس وقبله ومن آلاف السنين لا يستند إلى ضرورة عقلية تحتم إشراقها غدا أو بعده .
ومن الوجهة الواقعية( التجريبية): لا يمكن أيضا تبرير الاستقراء . لأننا بكل بساطة سنقع في مغالطة المصادرة على المطلوب . وهكذا لا يرتكز الاستقراء إلا على هذه العادة، التي ولدها فينا تکرار حوادث مطردة، فتعتقدها قانونا شاملا ثابتا يتجاوز الزمان والمكان .." فلقد سبق لنا في
كثير من المناسبات ملاحظة اقتران السحب بالمطر وشروق الشمس بوجود النهار وبحكم هذا | الاقتران المتكرر تكونت لدينا عادة توقع سقوط المطر عند رؤية السحب وتوقع طلوع النهار عند شروق الشمس .
ويميز «هیوم» بين نوعين من القضايا: قضايا منطقية رياضية؛ وقضايا تجريبية استقرائية :
فالقضايا المنطقية الرياضية، لا تطرح إشكالا منطقيا، فإذا قلنا أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزوايا يساوي مجموع المربعين المنشاين على الضلعين الآخرين، فإن هذه القضية واضحة وصادقة وصدقها يرجع إلى عدم تناقضها مع نفسها (عدم التناقض بين المقدمات والنتائج) .
أما القضايا التجريبية الاستقرائية، فإن صدقها يتوقف على مدى مطابقتها للواقع . ومنه لا يمكن الجزم ب « أن رجلا قفز من نافذة على ارتفاع بعيد من الأرض [...] بأنه سيسقط حتما على الأرض، وأنه لن يتجه اتحاها آخر، كان يرتفع إلى السماء أو يتحرك في خط أفقية ». وبناء على ذلك، ليس هناك ما يضمن صدق القضايا التجريبية الاستقرائية وبالتالي صدق القوانين العلمية .
و المناقشة: إن وجاهة الأدلة التي يقدمها «هيوم» وطرافة طرحه من جهة، ومدى تأثير وجهة نظره من جهة أخرى، في فلاسفة كبار من أمثال الفيلسوف «كانط)، الذي يقر لنا أن شك «هيوم»
أيقظه من سباته الدوغماتي ()، وحرکه نحو فلسفته النقدية . لم يمنع كل ذلك، المتصدين لهذا الشك من دحضه وإبطاله .
ولعل أبرز المتصدين لأطروحة «هيوم» - التي تشكك في مشروعية الاستقراء، بل ومشروعية العلم - العالم جون إلمو في قوله: « أنه مهما كان أصل العلية، فإن ضرورتها قد فرضتها نشأة العلم. وليس لنا أن نتساءل هنا ما إذا كانت مشروعة، وإذا كان العالم يخضع لهذه العلية، فذلك لأن مشكلتها التي طرحت قد عاكسها النشاط العلمي نفسه».
ومن جهته يؤكد «آینشطاین» خطورة شك «هيوم» في مشروعية الاستقراء لأن ذلك يقود الامناص إلى الشك في العلم ذاته . إن ما يجعلنا في تصوره نثق بالاستقراء هو الاعتقاد الجازم في كون الطبيعة تخضع لنظام عام وثابت . وفي هذا الصدد يقول: « إنه بدون الاعتقاد بأن هناك انسجام داخلية في عالمنا هذا، فإنه لا يمكن أن يقوم العلم . فهذا الاعتقاد سوف يظل دائما الدافع الأساسي للإبداع العلمي » . ولهذا لا بد للباحث ، أن يؤمن بالحتمية حتى يوسس العلم . وقانون التعميم لا يصح تطبيقه، فيما يقول «بوانکاریه» إلا إذا « كانت في الكون أشياء متشابة أو تكاد تكون متشامة » .
ب نقيض القضية:
1- منطقه: [ إن الاستقراء في نظر خصوم «هيوم» مشروع، وما يبرر مشروعيته هو انه يقوم على مبادئ: وهي مبدأ السببية ومبدأ و مبدأ الحتمية ].
2- مسلماتها وما تستوجبه من برهنة:
مبدأ المسلمة ينص على أن لكل معلول علة بحيث، لا يمكن للعقل البشري أن يتصور حدوث ظاهرة لا سبب لها ؛
أما مبدأ الاطراد، فهو مبدأ راسخ لدى العلماء يقضي أن الظواهر الطبيعية تتكرر دائما بشكل منتظم، وإنكار هذا المبدأ يفضي إلى الإيمان بفكرة العشوائية والفوضى، وهو ما يرفضه العقل البشري، فالإنسان يرى الشمس تشرق كل صباح وتغرب كل مساء، ولم يحدث أن وقع غير ذلك . والحال نفسه بالنسبة لكل الظواهر الطبيعية الأخرى . فالتكرار المنتظم سمة الظواهر
الطبيعية . وهو ما عبر عنه «ج.س. مل» في قوله : « الاطراد مبدأ كان لابد من اتخاذه مقدمة نهائية ترتد إليها كل العمليات الاستقرائية »
أما مبدأ الحتمية، فهو مبدأ ينص على أن الطبيعة( الكون) تخضع لنظام عام وثابت: فهو نظام عام يشمل كل الظواهر دون أن نستثني منها أي ظاهرة . وأن كل ظاهرة طبيعية تخضع لقانون محدد، وأن هناك طائفة من الأسباب تقابلها طائفة من النتائج . وهو نظام ثابت لا يقبل التقلب والتغير أو الاستثناء أو الاحتمال . وعلى هذا الأساس، فإن ما يقع لظاهرة ما في الحاضر وقع لما لاشك في الماضي وسيقع لها -حتما- في المستقبل . فإذا عدنا مرة أخرى إلى المثال الذي ساقه إلينا (عبد الرحمن بدوي)، فإن الرجل الذي قفز من النافذة على ارتفاع بعيد من الأرض، سيسقط حتما، ولن يتجه أبدا اتجاه آخر، كأن يرتفع إلى السماء أو يتحرك في خط أفقي.
ومن أبرز الفلاسفة الذين قاموا يدافعون عن مشروعية الاستقراء، هذا المعنى الفيلسوف الألماني (كانط)، لقد حاول إعادة بناء المعرفة على أسس صلبة، تصمد لعواصف الشك، كشك هیوم، فأقر بهشاشة الأسس الدوغماتية التقليدية، ولكنه لم يستسلم لدعاوى الشكاك، التي تنتهي إلى هدم كل معرفة بدءا من هدم الأسس التي يقوم عليها العلم . وانتهت نقديته إلى أن العقل مؤهل لمعرفة ظواهر الطبيعة ، فهو مزود .مقولات قبلية سابقة عن كل تجربة.
المناقشة:
يتبين لنا على ضوء ما سبق أن الاستقراء العلمي يعتمد على مسلمتين (مبدأ السبية ومبدا الحتمية) لا يمكن البرهنة عليهما بالتجربة . ومعنى ذلك أن الاستقراء لا يخلو من طابع ميتافيزيقي . لقد نبه رسل إلى هذه الحقيقة وأكد أن التجربة وحدها لا تكفي لبناء العلم .
فلابد للباحث، إما أن يسلم ب (مبدأ السبية ومبدأ الحتمية) - كمبدأين غير مؤكدين تجريبيا
- وإما أن يبحث عبثا عما يبرر توقعه للمستقبل على أساس خبرة الماضي .
ج/ التركيب:
1- منطق القضية المركبة: [لا مناص من التسليم بعبادي قبلية وهي (السبية والاطراد والحتمية) لتبرير مشروعية الاستقراء وتأسيس العلم.
2- مسلماتها وما تستوجبه من برهنة:
أجمع علماء الفيزياء الحديثة وكذا، فلاسفة القرن التاسع عشر على القول بأن الطبيعة تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الاحتمال ومن ثمة، فالحتمية كونية بحكم أنه لكل ظاهرة شروط
تحدثها ، وإذا تكررت نفس الشروط تودي حتما إلى نفس النتائج . وهو ما يعني إمكانية التنبؤ بجميع ظواهر الكون بمجرد الكشف عن شروط حدوثها . وهو ما عبر عنه «لابلاس Laplace»، في مقولته المشهورة : « يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة الحالته السابقة، وسبيا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة » .
وفي هذا السياق يؤكد «هنري بوانكاریه) على أن مبدأ الحتمية لا يمكن الاستغناء عنه . والعلم على حد تعبيره « حتمي وذلك بالبداهة ، لأنه لوها لما أمكن أن يكون ». وفي المنحى يقول «کلود برنار»: «لا بد من التسليم كبديهية تجريبية، بأن شروط وجود كل ظاهرة - سواء تعلق الأمر بالكائنات الحية أو الأجسام الجامدة - هي محددة تحديدا مطلقا [...] وما إنكار هذه القضية سوى إنكار للعلم ذاته » . ومعنى ذلك، أنه لا معين للعلم في غياب الأخذ بمبدأ الحتمية.
3. حل المشكلة:
وكمخرج من هذه المشكلة يمكننا القول، أن لا سبيل إلى إنكار أهمية الاستقراء في الوصول إلى نتائج علمية حاسمة قد تكون قانونا أو نظرية، ولكن مشروعية هذه النتائج مرتبطة بمشروعية الاستقراء ذاته . وعلاوة على ما سبق نؤكد أن ما يبرر مشروعية الاستقراء هو أن العالم يدخل في حسابه قبل الانطلاق في أي بحث علمي، افتراضين عقليين قبليين هما (مبدا الحتمية)، و(مبدا الاطراد) .
التعليقات على الموضوع