هل من ديداكتيك للدرس الفلسفي من خلال تاريخ الفلسفة (نموذج كانط)؟
مارس الكثير من الفلاسفة، عبر تاريخ الفلسفة، التدريس والتعليم الفلسفي. فقد كان للفيلسوف،
في معظم الأحيان، تلامذته ومريدوه. وهكذا، نجد درجة معينة من التلازم بين الاشتغال بالفلسفة
والاشتغال بالتدريس؛ بحيث أن الفيلسوف كان، بمعنى ما، مدرسا للفلسفة، كما أن مدرس الفلسفة لم يكن
غير الفيلسوف ذاته. وهذا من شأنه أن يدفع إلى التفكير في إمكانية وجود ديداكتيك للفلسفة مستلهم ليس
فقط من تأملات الفلاسفة ونظرياتهم حول هذا الموضوع، بل أيضا من خلال مؤلفاتهم وكتاباتهم بصفة
. ةعام فما هي بعض الدروس الديداكتيكية التي يمكن استلهامها من تاريخ الفلسفة؟ وكيف تصور الفلاسفة
المدرسون مانويل كانط
ٕ
وا بشكل خاص التعليم الفلسفي؟ وما هي بعض الخلاصات التي يمكن الاحتفاظ
بها من محاولة قراءة تاريخ الفلسفة ديداكيكيا؟
إذا كان الفلاسفة، ومنذ اللحظة الإغريقية، قد مارسوا التدريس الفلسفي، فإن الإطار غير المؤسسي الذي مورس فيه هذا التدريس، لم يكن يستدعي أي اهتمام بقضية الديداكتيك؛ مادام أنه لم يكن هنالك فرق بين تعليم الفلسفة وبين الفلسفة كما يمارسها الفيلسوف. وهكذا، فتاريخ الفلسفة إلى حدود القرن السابع عشر على الأقل، من المستبعد أن يشكل أساسا لبلورة رؤية ديداكتيكية متكاملة حول تدريس الفلسفة. وبالرغم من هذا، فإن المؤلفات الفلسفية الكبرى لا تخلو من إشارات وتقنيات مفيدة ديداكتيكيا (توظيف المثال والخيال والحكاية، الجدل كأداة لاستفزاز الرأي المشترك وبناء المفارقات، التلخيص والتبسيط والشرح...). كما أن هذه المؤلفات نفسها كمحاورات أفلاطون ومؤلفات أرسطو وديكارت وغيرهم، من الممكن أن تشكل مدخلا ملائما للفكر الفلسفي لتلاميذ التعليم الثانوي التأهيلي . وتمثل فلسفة كانط لحظة تحول أساسية في اهتمام الفلاسفة بمسألة التدريس الفلسفي. فهذا الفيلسوف عمل على رصد الشروط الضرورية لنجاح التعليم الفلسفي (متعالية/ سياسية/ أخلاقية/ مؤسساتية)، معتبرا هذا التعليم محورا من محاور النقد المتعالي للعقل الخالص، وليس قضية بيداغوجية صرفة. وقد كانت لدى كانط ثقة كبرى في الفلسفة وفي نسق المعارف بشكل عام، بوصفه طريق التنوير والتحرر من الجهل والاستبداد؛ خاصة في ضوء قناعته الراسخة بتجذر الفلسفة والتفلسف في الطبيعة البشرية ذاتها .
انطلاقا من الأهمية القصوى للمنظور الكانطي للتعليم الفلسفي وراهنيته وكونه شكل الأرضية الصلبة للمقاربات اللاحقة لهذا الموضوع، فإننا سنكتفي هنا برصد الخطوط العريضة لهذا المنظور، وبيان الخلاصات الممكن الاحتفاظ بها بخصوص تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي. فما هي الخطوط العريضة للتصور الكانطي للتعليم الفلسفي؟
لا يمكن الحديث عن التعليم الفلسفي دون استحضار التمييز الكانطي بين نوعين من المعارف :
- المعارف التاريخية: وهي معارف جاهزة يحصلها الإنسان بوساطة وسيط خارجي. لذلك فتعلمها لا
يعدو أن يكون تعلما ميكانيكيا، يتوجه إلى الذاكرة، ولا يتوخى غير تخزين المعرفة؛
- المعارف العقلية: وهي معارف يستمدها الإنسان قبليا من مبادئ عقله الخالص، دون الاستناد إلى
مصدرها الخارجي. لذلك فتعلمها ذاتي، يتوجه إلى تقنيات التفكير وأدواته بدل الذاكرة .
والفلسفة، كما هو حال الرياضيات والفيزياء مثلا، تنتمي إلى هذه الفئة الثانية . وهذا يعني أن ما يفترض أن يتأتى تعلمه فيها هو أفعال التفكير وتقنيات البناء العقلي (التحليل، التركيب، الاستدلال...). لكن المعرفة الفلسفية، بخلاف المعرفة الرياضية مثلا، لا تستجيب بتلقائية لهذا المبدأ، لأنها ليست مجرد بناءات استدلالية صورية، مادام أنها شاملة لأنساق خطابية متباينة المبادئ والنتائج، يصعب معها الحديث عن الفلسفة بصيغة المفرد. وبهذا المعنى، يصبح "تعليم الفلسفة" دالا على التقليد والحفظ والاكتساب التاريخي، الذي لا يمكن أن يجعل الإنسان قادرا على التفلسف. وبالإضافة إلى هذا الوضع المفارق للفلسفة وما يطرحه من مشكلات، يصطدم التعليم الفلسفي، من منظور كانط، بصعوبات تخص ملاءمته مع قدرات الشباب واهتماماتهم، ومع طرق التعليم المدرسي التي تعودوا عليها في مواد دراسية أخرى . في ضوء هذه الإكراهات، ما الذي ينبغي أن يتوجه إليه التعليم الفلسفي من منظور فيلسوف العقل الخالص؟ بداية يرفض كانط التصور الذي يدافع عنه "فلاسفة الحدس والإلهام" "أو أصحاب الفطر الفائقة" (...Jacobi, Schlosser ،(لأن اعتبار الفلسفة مجرد موهبة لدى بعض العباقرة لا تستدعي بذل أي جهد، معناه نفي أن تكون الفلسفة فكرا ينظم ذاته منهجيا في شكل قضايا موجهة للتفكير والتعليم والتعلم. إن دعاة هذا التصور ما هم، وفق هذا المنظور، إلا "أشباه فلاسفة"، ونزعتهم نزعة ظلامية تعتيمية مضللة، هدفها وضع حد للنشاط الفلسفي. كما يستبعد كانط النزعة التي تعتبر الحس المشترك أساسا للتفلسف، وترى أنه بدون أي معرفة أو علم، وبدون لجوء إلى التأمل، يمكن معالجة الإشكالات الفلسفية.
إن هذه النزعة بدورها ما هي، في نظره، إلا نزعة ميزولوجية تستهين بالعقل وقدراته على التفكير والعلم وتنزل به إلى مستوى الابتذال . ٕ ذا لم يكن التفلسف إلهاما روحيا نادرا، ولا معارف مشتركة شائعة؛ فما دلالته؟ وكيف يمكن وا تعلميه وتعلمه؟ لا يمكن الحديث عن التفلسف، من منظور كانط، بمعزل عن النقد؛ فهذا الأخير ضرورة فكرية وبيداغوجية للاستعمال الفلسفي للعقل، الذي ينبغي أن يخضع لاختبار النقد، بوصفه تربية صارمة توقف كل تجاوزاته وتمنعه من السقوط ضحية الأغاليط. وهكذا، فالبداية الجذرية لكل تفلسف إنما تكمن في النقد، لأنه هو الذي يحدد شروط التفلسف داخل العقل وداخل المؤسسة الجامعية؛ و تعلم النقد لا يعني شيئا غير تعلم النقد. وهذا هو المعنى الدقيق لهذه العبارة في السياق الذي وردت فيه في كتاب "نقد العقل الخالص ".
وعندما يعتبر كانط التفلسف نقدا، فهو يستبعد ، في الآن ذاته، إمكانية اتباع نموذج جاهز لتعلمه؛ لأن الإنسان بدراسته للأنساق الفلسفية لا يتجاوز تعلم معرفة تاريخية بفلسفات متصارعة تعكس جدل العقل وحروبه، بدل تماسكه ووحدته. وفي مقابل هذا، يسعى النقد المتعالي لإقامة نسق فلسفي جديد يكون محط قبول الجميع واقتناعهم. غير أنه مادامت هذه الفلسفة الواحدة مجرد فكرة عن علم ممكن لم يتحقق بعد، فهذا يعني أنه لا يمكن تعلم أي فلسفة ، وبالتالي لا يمكن أن نتعلم غير التفلسف أو النقد؛ هلأن الوسيلة الأساسي ة لاكتشاف الطريق الوحيد الذي يقود إلى الفلسفة .
وهكذا، وقبل الحديث عن المعارف الفلسفية، يجب، من منظور كانط، تربية عقول الشباب المبتدئي ن في تعلم الفلسفة تربية نقدية متدرجة وعميقة، تسير بهم في طريق الاستقلال الذاتي والإنتاج تبعا لمبادئ العقل ذاته عو . وض الاستعمال الميكانيكي للعقل القائم على مجرد التقليد، يتوخى تعلم التفلسف جعل التعليم الفلسفي إطار ا يتعلم فيه الفرد أفعال النقد والتحكم فيها، حتى تصبح لديه مهارات وقدرات دائمة ونشيطة؛ فبواسطة النقد وحده "نهيئ الشباب للمستقبل ،" بحسب كانط، لا بش حن أذهانهم بأنساق فلسفية جاهزة .
ذا و ا كانت الأولوية، في التعليم الفلسفي، لتعلم النقد، فإن هذا الأخير يتحدد ، في تالمي ادولوجيا المتعالية، كإجراءات منهجية وقواعد وتقنيات للتفكير موجهة لكل من يريد تعلم التفلسف. جمالا، ٕ وا يحصر كانط تقنيات التفكير هذه في أربعة استعمالات للعقل هي :
1 الاستعمال اليقيني للعقل، ويرتبط بتربية العقل في علاقته بالحقيقة؛
2 الاستعمال الجدلي للعقل، ويرتبط بتربية العقل على استعمال الأدوات والطرق السجالية مع الغير؛ .
3 استعمال العقل للفرضيات في المجال النظري الخالص؛ ٕ
4 الاستعمال الحجاجي للعقل، ويخص توظيف العقل للحجة بهدف دعم قضاياه وا قناع الغير بها .
غير أن هذه المكانة المميزة للنقد وأفعاله وتقنيات التفكير في التعليم الفلسفي، ليس معناه الإعراض كلية عن تاريخ الفلسفة، بل فقط وضعه في مرتبة أدنى من تعلم التفلسف والنقد. فتاريخ الفلسفة يظل مادة خصبة للقيام ببحوث أولية تنمي القدرة على التأمل والتفكير المنهجي في القضايا الفلسفية. وهذا يعني ضرورة توظيف المؤلفات الفلسفية، لأنه خارج هذه النصوص يصعب جدا التمرس على إجراءات التفلسف.
إن تاريخ الفلسفة إذن، ضروري للتعليم الفلسفي ؛ وما يرفضه كانط هو أن يتحول هذا التعليم إلى اجترار للأنساق الفلسفية أو انتصار لهذا النسق أو ذاك بدون مبرر عقلي ل . ذلك يلزم خضوع تعليم الأفكار الفلسفية لتوجيه النقد، لا كمجرد صوت من أصوات هذا التاريخ، بل كحدث متميز مؤسس لفعل جديد في التفلسف في الفكر الحديث، متصور كتاريخ فلسفي للفلسفة أو كـ "أركيولوجيا فلسفية ت" رصد التطور المتنامي للعقل البشري خارج مقتضيات الصيرورة التاريخية بمعناها الكرونولوجي و . رغم أن كانط لم يتمكن من إقامة مثل هذا التاريخ الفلسفي للفلسفة، إلا أنه قدم خطوطه العريضة، وكان لزاما انتظار ظهور فلسفة حول التاريخ، يجد تاريخ الفلسفة مكانه الطبيعي داخلها، وهو ما تحقق لاحقا مع هيجل.
بناء على هذه الأرضية الفسيحة ، والمعروضة باقتضاب شديد، للتصور الكانطي للتعليم الفلسفي، وبناء على الراهنية التي تسم الكثير من جوانبه في علاقة مع واقع هذا التعليم بالثانوي التأهيلي يمكن الخروج بالخلاصات التالية :
1 الدرس الفلسفي ينبغي أن يظل مجالا لتعلم التفلسف والنقد وممارسة التفكير الذاتي المستقل وتنمية الوعي النقدي، وخاصة في ضوء التحديات التي تطرحها الثورة المعلوماتية الراهنة والهيمنة المتزايدة للمرئي على المكتوب؛ وذلك بالرغم من الإكراهات المرتبطة بموقع هذا الدرس داخل المؤسسة وداخل المشروع المجتمعي الذي تستهدف بناءه؛
2 التفلسف والنقد وتقنيات التفكير لا يمكن اختزالها في المفهمة والأشكلة والمحاجة، فأهمية هذه القدرات المنهجية الأساسية لا تنفي القيمة الكبرى لتقنيات الجدل وأدوات البلاغة والحكي... الاو نفتاح على ٕكسابه قدرا هذه الجوانب من شأنه إغناء الدرس الفلسفي وا إضافيا من الجاذبية والإثارة؛
3 برامج مادة الفلسفة من الممكن أن تتضمن، بالتوازي مع المفاهيم Notions ،دروسا تتوجه للتعريف المباشر بتقنيات التفكير وأدواته المرتبطة بالاستعمالات الأربعة للعقل التي سبقت الإشارة إليها؛
لفلسفية، وان كانت في مرتبة ثانية مقارنة مع التفلسف والنقد، لها أهميتها المشروطة بكيفية ٕ -4 المعرفة استخدامها. ذلك أن اكتساب تقنيات التفكير وأدوات البناء العقلي تستلزم توظيفا ديداكتيكيا ملائما لهذه المعرفة ف . توظيف النصوص والمؤلفات الفلسفية يتعين أن يكون خاضعا لانتقاء دقيق يراعي وضوح أدوات التفلسف فيها، وملاءمتها للإشكالات الفلسفية المزمع مقاربتها، وللمستوى العقلي المعرفي لتلاميذ التعليم الثانوي التأهيلي. كما ينبغي تنويع هذا التوظيف كما وكيفا بتناسب مع مكان هذا التوظيف (داخل الفصل أو خارجه) في علاقته بالإيقاعات المدرسية؛
5 الدرس الفلسفي فضاء للبحث والتفكير والاكتشاف والبناء استنادا على القدرات الذاتية للتلميذ، وليس للإلقاء والإملاء وحشو الذاكرة. لذلك فمدر س الفلسفة أصبحت وظيفته تسهيل بناء المعرفة وخلق الحافزية والإثارة، وهو ما يتأسس على المزاوجة، بتعبير كانط، بين الكمال المنطقي والكمال الإستيتيقي للمعرفة؛
6 يمكن التأسيس ل"ـ مقياس مش "ترك بين جميع الأطراف ( تلاميذ، مدرسين، واضعي البرامج، لجان الاختبارات )... حول ما يتوخاه درس الفلسفة، بغض النظر عن تعدد القناعات والمذاهب والكتب المدرسية. ويمكن أن تكون نقطة الانطلاق في ذلك ما يقترحه كانط في الميتودولوجيا المتعالية حول تعلم التفلسف؛
-7 التقويم في مادة الفلسفة في حاجة إلى بحث وتطوير يجعله أكثر ملاءمة مع مطلب تعلم التفلسف والنقد و"التفكير الذاتي " même-soi par Penser؛ وذلك بالتركيز أكثر على القدرات والمهارات، عوض الاسترداد الآلي للمعارف القائم على الذاكرة، وما يرتبط بذلك من ظواهر الاستنساخ والغش؛
8 الكتب المدرسية يتعين إشاعة الوعي أكثر فأكثر بكونها لا تختزل المنهاج ولا تستنفذه، ولا تلغي اجتهاد مدرس الفلسفة في توظيف نصوص أو دعامات ديداكتيكية أخرى، وبكيفيات مغايرة تماما لما تقترحه هذه الكتب .
إذا كان الفلاسفة، ومنذ اللحظة الإغريقية، قد مارسوا التدريس الفلسفي، فإن الإطار غير المؤسسي الذي مورس فيه هذا التدريس، لم يكن يستدعي أي اهتمام بقضية الديداكتيك؛ مادام أنه لم يكن هنالك فرق بين تعليم الفلسفة وبين الفلسفة كما يمارسها الفيلسوف. وهكذا، فتاريخ الفلسفة إلى حدود القرن السابع عشر على الأقل، من المستبعد أن يشكل أساسا لبلورة رؤية ديداكتيكية متكاملة حول تدريس الفلسفة. وبالرغم من هذا، فإن المؤلفات الفلسفية الكبرى لا تخلو من إشارات وتقنيات مفيدة ديداكتيكيا (توظيف المثال والخيال والحكاية، الجدل كأداة لاستفزاز الرأي المشترك وبناء المفارقات، التلخيص والتبسيط والشرح...). كما أن هذه المؤلفات نفسها كمحاورات أفلاطون ومؤلفات أرسطو وديكارت وغيرهم، من الممكن أن تشكل مدخلا ملائما للفكر الفلسفي لتلاميذ التعليم الثانوي التأهيلي . وتمثل فلسفة كانط لحظة تحول أساسية في اهتمام الفلاسفة بمسألة التدريس الفلسفي. فهذا الفيلسوف عمل على رصد الشروط الضرورية لنجاح التعليم الفلسفي (متعالية/ سياسية/ أخلاقية/ مؤسساتية)، معتبرا هذا التعليم محورا من محاور النقد المتعالي للعقل الخالص، وليس قضية بيداغوجية صرفة. وقد كانت لدى كانط ثقة كبرى في الفلسفة وفي نسق المعارف بشكل عام، بوصفه طريق التنوير والتحرر من الجهل والاستبداد؛ خاصة في ضوء قناعته الراسخة بتجذر الفلسفة والتفلسف في الطبيعة البشرية ذاتها .
انطلاقا من الأهمية القصوى للمنظور الكانطي للتعليم الفلسفي وراهنيته وكونه شكل الأرضية الصلبة للمقاربات اللاحقة لهذا الموضوع، فإننا سنكتفي هنا برصد الخطوط العريضة لهذا المنظور، وبيان الخلاصات الممكن الاحتفاظ بها بخصوص تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي. فما هي الخطوط العريضة للتصور الكانطي للتعليم الفلسفي؟
لا يمكن الحديث عن التعليم الفلسفي دون استحضار التمييز الكانطي بين نوعين من المعارف :
- المعارف التاريخية: وهي معارف جاهزة يحصلها الإنسان بوساطة وسيط خارجي. لذلك فتعلمها لا
يعدو أن يكون تعلما ميكانيكيا، يتوجه إلى الذاكرة، ولا يتوخى غير تخزين المعرفة؛
- المعارف العقلية: وهي معارف يستمدها الإنسان قبليا من مبادئ عقله الخالص، دون الاستناد إلى
مصدرها الخارجي. لذلك فتعلمها ذاتي، يتوجه إلى تقنيات التفكير وأدواته بدل الذاكرة .
والفلسفة، كما هو حال الرياضيات والفيزياء مثلا، تنتمي إلى هذه الفئة الثانية . وهذا يعني أن ما يفترض أن يتأتى تعلمه فيها هو أفعال التفكير وتقنيات البناء العقلي (التحليل، التركيب، الاستدلال...). لكن المعرفة الفلسفية، بخلاف المعرفة الرياضية مثلا، لا تستجيب بتلقائية لهذا المبدأ، لأنها ليست مجرد بناءات استدلالية صورية، مادام أنها شاملة لأنساق خطابية متباينة المبادئ والنتائج، يصعب معها الحديث عن الفلسفة بصيغة المفرد. وبهذا المعنى، يصبح "تعليم الفلسفة" دالا على التقليد والحفظ والاكتساب التاريخي، الذي لا يمكن أن يجعل الإنسان قادرا على التفلسف. وبالإضافة إلى هذا الوضع المفارق للفلسفة وما يطرحه من مشكلات، يصطدم التعليم الفلسفي، من منظور كانط، بصعوبات تخص ملاءمته مع قدرات الشباب واهتماماتهم، ومع طرق التعليم المدرسي التي تعودوا عليها في مواد دراسية أخرى . في ضوء هذه الإكراهات، ما الذي ينبغي أن يتوجه إليه التعليم الفلسفي من منظور فيلسوف العقل الخالص؟ بداية يرفض كانط التصور الذي يدافع عنه "فلاسفة الحدس والإلهام" "أو أصحاب الفطر الفائقة" (...Jacobi, Schlosser ،(لأن اعتبار الفلسفة مجرد موهبة لدى بعض العباقرة لا تستدعي بذل أي جهد، معناه نفي أن تكون الفلسفة فكرا ينظم ذاته منهجيا في شكل قضايا موجهة للتفكير والتعليم والتعلم. إن دعاة هذا التصور ما هم، وفق هذا المنظور، إلا "أشباه فلاسفة"، ونزعتهم نزعة ظلامية تعتيمية مضللة، هدفها وضع حد للنشاط الفلسفي. كما يستبعد كانط النزعة التي تعتبر الحس المشترك أساسا للتفلسف، وترى أنه بدون أي معرفة أو علم، وبدون لجوء إلى التأمل، يمكن معالجة الإشكالات الفلسفية.
إن هذه النزعة بدورها ما هي، في نظره، إلا نزعة ميزولوجية تستهين بالعقل وقدراته على التفكير والعلم وتنزل به إلى مستوى الابتذال . ٕ ذا لم يكن التفلسف إلهاما روحيا نادرا، ولا معارف مشتركة شائعة؛ فما دلالته؟ وكيف يمكن وا تعلميه وتعلمه؟ لا يمكن الحديث عن التفلسف، من منظور كانط، بمعزل عن النقد؛ فهذا الأخير ضرورة فكرية وبيداغوجية للاستعمال الفلسفي للعقل، الذي ينبغي أن يخضع لاختبار النقد، بوصفه تربية صارمة توقف كل تجاوزاته وتمنعه من السقوط ضحية الأغاليط. وهكذا، فالبداية الجذرية لكل تفلسف إنما تكمن في النقد، لأنه هو الذي يحدد شروط التفلسف داخل العقل وداخل المؤسسة الجامعية؛ و تعلم النقد لا يعني شيئا غير تعلم النقد. وهذا هو المعنى الدقيق لهذه العبارة في السياق الذي وردت فيه في كتاب "نقد العقل الخالص ".
وعندما يعتبر كانط التفلسف نقدا، فهو يستبعد ، في الآن ذاته، إمكانية اتباع نموذج جاهز لتعلمه؛ لأن الإنسان بدراسته للأنساق الفلسفية لا يتجاوز تعلم معرفة تاريخية بفلسفات متصارعة تعكس جدل العقل وحروبه، بدل تماسكه ووحدته. وفي مقابل هذا، يسعى النقد المتعالي لإقامة نسق فلسفي جديد يكون محط قبول الجميع واقتناعهم. غير أنه مادامت هذه الفلسفة الواحدة مجرد فكرة عن علم ممكن لم يتحقق بعد، فهذا يعني أنه لا يمكن تعلم أي فلسفة ، وبالتالي لا يمكن أن نتعلم غير التفلسف أو النقد؛ هلأن الوسيلة الأساسي ة لاكتشاف الطريق الوحيد الذي يقود إلى الفلسفة .
وهكذا، وقبل الحديث عن المعارف الفلسفية، يجب، من منظور كانط، تربية عقول الشباب المبتدئي ن في تعلم الفلسفة تربية نقدية متدرجة وعميقة، تسير بهم في طريق الاستقلال الذاتي والإنتاج تبعا لمبادئ العقل ذاته عو . وض الاستعمال الميكانيكي للعقل القائم على مجرد التقليد، يتوخى تعلم التفلسف جعل التعليم الفلسفي إطار ا يتعلم فيه الفرد أفعال النقد والتحكم فيها، حتى تصبح لديه مهارات وقدرات دائمة ونشيطة؛ فبواسطة النقد وحده "نهيئ الشباب للمستقبل ،" بحسب كانط، لا بش حن أذهانهم بأنساق فلسفية جاهزة .
ذا و ا كانت الأولوية، في التعليم الفلسفي، لتعلم النقد، فإن هذا الأخير يتحدد ، في تالمي ادولوجيا المتعالية، كإجراءات منهجية وقواعد وتقنيات للتفكير موجهة لكل من يريد تعلم التفلسف. جمالا، ٕ وا يحصر كانط تقنيات التفكير هذه في أربعة استعمالات للعقل هي :
1 الاستعمال اليقيني للعقل، ويرتبط بتربية العقل في علاقته بالحقيقة؛
2 الاستعمال الجدلي للعقل، ويرتبط بتربية العقل على استعمال الأدوات والطرق السجالية مع الغير؛ .
3 استعمال العقل للفرضيات في المجال النظري الخالص؛ ٕ
4 الاستعمال الحجاجي للعقل، ويخص توظيف العقل للحجة بهدف دعم قضاياه وا قناع الغير بها .
غير أن هذه المكانة المميزة للنقد وأفعاله وتقنيات التفكير في التعليم الفلسفي، ليس معناه الإعراض كلية عن تاريخ الفلسفة، بل فقط وضعه في مرتبة أدنى من تعلم التفلسف والنقد. فتاريخ الفلسفة يظل مادة خصبة للقيام ببحوث أولية تنمي القدرة على التأمل والتفكير المنهجي في القضايا الفلسفية. وهذا يعني ضرورة توظيف المؤلفات الفلسفية، لأنه خارج هذه النصوص يصعب جدا التمرس على إجراءات التفلسف.
إن تاريخ الفلسفة إذن، ضروري للتعليم الفلسفي ؛ وما يرفضه كانط هو أن يتحول هذا التعليم إلى اجترار للأنساق الفلسفية أو انتصار لهذا النسق أو ذاك بدون مبرر عقلي ل . ذلك يلزم خضوع تعليم الأفكار الفلسفية لتوجيه النقد، لا كمجرد صوت من أصوات هذا التاريخ، بل كحدث متميز مؤسس لفعل جديد في التفلسف في الفكر الحديث، متصور كتاريخ فلسفي للفلسفة أو كـ "أركيولوجيا فلسفية ت" رصد التطور المتنامي للعقل البشري خارج مقتضيات الصيرورة التاريخية بمعناها الكرونولوجي و . رغم أن كانط لم يتمكن من إقامة مثل هذا التاريخ الفلسفي للفلسفة، إلا أنه قدم خطوطه العريضة، وكان لزاما انتظار ظهور فلسفة حول التاريخ، يجد تاريخ الفلسفة مكانه الطبيعي داخلها، وهو ما تحقق لاحقا مع هيجل.
بناء على هذه الأرضية الفسيحة ، والمعروضة باقتضاب شديد، للتصور الكانطي للتعليم الفلسفي، وبناء على الراهنية التي تسم الكثير من جوانبه في علاقة مع واقع هذا التعليم بالثانوي التأهيلي يمكن الخروج بالخلاصات التالية :
1 الدرس الفلسفي ينبغي أن يظل مجالا لتعلم التفلسف والنقد وممارسة التفكير الذاتي المستقل وتنمية الوعي النقدي، وخاصة في ضوء التحديات التي تطرحها الثورة المعلوماتية الراهنة والهيمنة المتزايدة للمرئي على المكتوب؛ وذلك بالرغم من الإكراهات المرتبطة بموقع هذا الدرس داخل المؤسسة وداخل المشروع المجتمعي الذي تستهدف بناءه؛
2 التفلسف والنقد وتقنيات التفكير لا يمكن اختزالها في المفهمة والأشكلة والمحاجة، فأهمية هذه القدرات المنهجية الأساسية لا تنفي القيمة الكبرى لتقنيات الجدل وأدوات البلاغة والحكي... الاو نفتاح على ٕكسابه قدرا هذه الجوانب من شأنه إغناء الدرس الفلسفي وا إضافيا من الجاذبية والإثارة؛
3 برامج مادة الفلسفة من الممكن أن تتضمن، بالتوازي مع المفاهيم Notions ،دروسا تتوجه للتعريف المباشر بتقنيات التفكير وأدواته المرتبطة بالاستعمالات الأربعة للعقل التي سبقت الإشارة إليها؛
لفلسفية، وان كانت في مرتبة ثانية مقارنة مع التفلسف والنقد، لها أهميتها المشروطة بكيفية ٕ -4 المعرفة استخدامها. ذلك أن اكتساب تقنيات التفكير وأدوات البناء العقلي تستلزم توظيفا ديداكتيكيا ملائما لهذه المعرفة ف . توظيف النصوص والمؤلفات الفلسفية يتعين أن يكون خاضعا لانتقاء دقيق يراعي وضوح أدوات التفلسف فيها، وملاءمتها للإشكالات الفلسفية المزمع مقاربتها، وللمستوى العقلي المعرفي لتلاميذ التعليم الثانوي التأهيلي. كما ينبغي تنويع هذا التوظيف كما وكيفا بتناسب مع مكان هذا التوظيف (داخل الفصل أو خارجه) في علاقته بالإيقاعات المدرسية؛
5 الدرس الفلسفي فضاء للبحث والتفكير والاكتشاف والبناء استنادا على القدرات الذاتية للتلميذ، وليس للإلقاء والإملاء وحشو الذاكرة. لذلك فمدر س الفلسفة أصبحت وظيفته تسهيل بناء المعرفة وخلق الحافزية والإثارة، وهو ما يتأسس على المزاوجة، بتعبير كانط، بين الكمال المنطقي والكمال الإستيتيقي للمعرفة؛
6 يمكن التأسيس ل"ـ مقياس مش "ترك بين جميع الأطراف ( تلاميذ، مدرسين، واضعي البرامج، لجان الاختبارات )... حول ما يتوخاه درس الفلسفة، بغض النظر عن تعدد القناعات والمذاهب والكتب المدرسية. ويمكن أن تكون نقطة الانطلاق في ذلك ما يقترحه كانط في الميتودولوجيا المتعالية حول تعلم التفلسف؛
-7 التقويم في مادة الفلسفة في حاجة إلى بحث وتطوير يجعله أكثر ملاءمة مع مطلب تعلم التفلسف والنقد و"التفكير الذاتي " même-soi par Penser؛ وذلك بالتركيز أكثر على القدرات والمهارات، عوض الاسترداد الآلي للمعارف القائم على الذاكرة، وما يرتبط بذلك من ظواهر الاستنساخ والغش؛
8 الكتب المدرسية يتعين إشاعة الوعي أكثر فأكثر بكونها لا تختزل المنهاج ولا تستنفذه، ولا تلغي اجتهاد مدرس الفلسفة في توظيف نصوص أو دعامات ديداكتيكية أخرى، وبكيفيات مغايرة تماما لما تقترحه هذه الكتب .
التعليقات على الموضوع