هل ترتد المفاهيم الرياضية إلى التجربة؟ مقالة الجدلية
نص الموضوع
الأول:يقول جون ستوارت مل:" النقاط و الخطوط و الدوائر التي يحملها
كل إنسان في ذهنه ما هي إلا النقاط و الخطوطو الدوائر التي تعرف عليها في الواقع." حلل وناقش
/
هل ترتد المفاهيم الرياضية إلى التجربة؟ الطريقة
الجدلية
I/-المقدمة (طرح
المشكلة):الرياضيات هي ذلك العلم الذي يهتم بدراسة المقادير القابلة
للقياس،والمقدار القابل للقياس يسمى كما،والكم نوعان:متصل موضوعه الهندسة،ومنفصل
موضوعه الحساب،ومشكلة أصل الرياضيات أثارت انقساما بين المفكرين والعلماء إلى
نزعتين متناقضتين:نزعة حسية تجريبية يرى أنصارها أن المفاهيم الرياضية مأخوذة من
الواقع الحسي، ونزعة عقلية يرى روادها أن المفاهيم الرياضية نابعة عن ملكة العقل، لذا
فأي الطرحين اصح و أيهما أقرب إلى الصواب
؟بمعنى آخر:هل منبع الرياضيات هو المعطيات الحسية؟أم أن منبعها العقل؟
II/-التوسيع(محاولة حل المشكلة)
القضية : المفاهيم الرياضية نابعة من الواقع الحسي.
شرح و تحليل :يرى التجريبيون أن كل معارفنا مأخوذة من الواقع
الحسي،فالعقل لديهم صفحة بيضاء أو عبارة عن وعاء فارغ يملأ بالمعارف التي نأخذها
من الواقع الحسي.
البرهنة:
1- الأشكال
الهندسية الرياضية هي مجرد محاكاة للواقع الحسي،فالخطوط المستقيمة تجسدها قطرات
نزول الماء المتوصل،والدوائر تشكلها سقوط القطرات على سطح ما،أو قد يشكلها القمر و
الشمس أو حدقة العين،وليس من المستبعد أن تكون كثرة الأشياء الموجودة في الطبيعة
هي التي أوحت بالعدد،ونجد الفيلسوف الانجليزي جون ستوارت مل يقول في
هذا الشأن:"النقاط و الخطوط و الدوائر التي يحملها كل إنسان في ذهنه ما هي
إلا النقاط و الخطوط و الدوائر التي تعرف عليها في الواقع."و يقول بوانكاري:"لولا
وجود الأجسام الطبيعية لما وجد علم الهندسة."
2- يثبت لنا تاريخ العلوم أن علم الرياضيات نشأ بصورة عملية
و تجريبية ،والاشتقاق اللغوي لعبارة الإحصاء المأخوذة من الحصى يدل على أن الإنسان
كان يستعمل الحصى أو أشياء أخرى من هذا القبيل،كما ينطبق هذا على اللغة الفرنسية:calculالتي تدل أيضا على معنى الحجارة.
3- التاريخ يثبت أنه كان لليد تأثير كبير في
الحساب حتى قال أسبيناس :"اليد أداة الحساب."
ولذلك يلاحظ أثر العد الأصبعي في تكوين نضام العد(النظام الخمسي)الذي يتجلى في
أصبع اليد وفي نظام العد الرومانيI II III
IV V VI
VII VIII IX
Xفالأربعة تكتب خمسة
يسبقها واحد،والستة تكتب خمسة بعدها واحد.
4-يطلعنا تاريخ العلم أن علم الهندسة النظري
عند اليونان إنما نشأ من عملية مسح الأراضي الزراعية،ونجد قدماء المصريين أشأوا
الهندسة من أجل تقدير مساحات الحقول بعد انقطاع مياه النيل وانسحابها منه،فكانوا
يرسمون الأشكال الهندسية لأراضيهم من أجل أن يتفادوا كل نزاع أو شبهة،وكانوا
يعملون استنادا على مربعات يدركون مساحتها.
استنتاج
جزئي:إذن المفاهيم الرياضية
منبعها الواقع الحسي.
نقـد: لا يمكن أن ننكر أن الوقائع المحسوسة هي
منطلقات لإنشاء تصورات عقلية،لكن المفاهيم الرياضية أغلبها مجرد،فالدائرة مثلا لا
ترضى أن تكون من ضوء ولا من تموجات مائية و لا من لحم،إنها دائرة مجردة ثابتة
تستقر بالعقل.
نقيض القضية : (المفاهيم
الرياضية نابعة عن العقل.)
شرح و تحليل : يرى العقلانيون أن الرياضيات وليدة العقل،
فهي عبارة عن مبادئ وأفكار سابقة عن التجربة الحسية،فهي جملة من المفاهيم المجردة
أنشأها الذهن واستنبطها من مبادئه،ولم تنشأ عن طريق الملاحظة الحسية.
البرهنة:
1- يؤكد المثاليون(العقليون) أنه بإمكان الإنسان
الوصول إلى معرفة جوهرية بواسطة الاستدلال العقلي الخالص دون اللجوء إلى مقدمات
تجريبية،فالعقل بطبيعته يتوفر على مبادئ و أفكار سابقة عن التجربة الحسي،وتتمتع
بالبداهة و الوضوح،وكل ما يصدر عن العقل من أحكام و قضايا ومفاهيم هي مطلقة و
ثابتة،فالفلسفة اليونانية على لسان أفلاطون
ترى أن العقل كان يحيا في عالم المثل،وكان على علم بسائر الحقائق والمعارف ،ومنها
المفاهيم الرياضية التي هي أزلية و ثابتة كالمستقيم ،والدائرة ،والتعريف
الرياضي،لكن عند مفارقته لهذا العالم نسيها،وكان عليه أن يتذكرها ويدركها بالذهن
وحده.يقول أفلاطون:"المعرفة تذكر."
2- يرى الفيلسوف
الفرنسي روينه ديكارت(1569-1650) أن
المعاني الرياضية من أعداد وأشكال نابعة عن أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ
البداية،مثل فكرة الله،هذا معناه أن الرياضيات نشأت بفعل العقل،فهي بعيدة عن
المجال المحسوس،يقول:"العقل هو أعدل قسمة بين الناس." و ما نفهمه
من هذا القول أن الناس جميعا يشتركون في هذه الملكة الفطرية التي تنشئ المعارف و
تصل إليها ،ومن ضمن هذه المعارف المفاهيم الرياضية.
3- ترى الفلسفة الألمانية على لسان إيمانويل
كانط(1724-1804)أن المكان و الزمان مفهومان
عقليان مجردان،وهما فكرتان قبليتان أوليتان قائمتان في الذهن،و مادامت الهندسة
مرتبطة بالمكان،والجبر مرتبط بالزمان فالمفاهيم الرياضية إذن مستقرها في العقل.
4- الرياضيات تعود إلى أصول منطقية،فـأرسطو
اعتقد أن البرهان الرياضي هو أحد أنواع القياس المنطقي،فكلاهما ينتقل من مقدمات
ليصل إلى نتائج لازمة عنها،وبما أن المنطق علق عقلي والرياضيات نابعة عنه،هذا يعني
أن الرياضيات كذلك أصلها عقلي.ولقد رفض برتراند راسل التمييز بين المنطق
والرياضيات حينما قال:"يمثل المنطق شباب الرياضيات وتمثل الرياضيات رجولة
المنطق."إذن فالتوافق العميق بين المنطق العقلي والرياضيات دلالة واضحة
على أن الرياضيات ترتد إلى العقل،كما أن الرياضيات مطلقة في نسقها،وصفة المطلقية
لا تتطابق مع أسس المدرسة التجريبية.
استنتاج
جزئي:إذن المفاهيم الرياضية
منبعها العقل.
نقـد:الإنسان في بداية حياته يتعامل فقط مع ما هو محسوس،فالإدراك العقلي
نفسه مكتسب من التجربة الحسية،فليس هناك
أفكار مجردة مستقرة في العقل، و بالتالي فإن المفاهيم الرياضية نابعة من التجربة
عن التجربة الحسية، فالطفل يتعامل مع المحسوسات لينتقل إلى المجردات،فيدرك العدد
انطلاقا من تجارب حسية،كما أن التاريخ يثبت أن الشعوب البدائية
استعملت الحواس للعد و الحساب.
التركيب: كتوفيق بين الأطروحتين يمكن القول أن العقل
و التجربة مرتبطان و متلازمان فلا وجود لعالم مثالي للمعاني الرياضية في غياب
العالم الخارجي و لا وجود للأشياء المحسوسة في غياب العقل و الوعي ،و الحقيقة أن
المعاني الرياضية لم تنشا دفعة واحدة، و التجريد أوجدته عوامل مأخوذة من الواقع
الحسي.
III/-الخاتمة(حل المشكلة):
وخلاصة القول نصل إلى حقيقة مفادها أن الرياضيات هي مزيج بين المفاهيم العقلية
الخالصة و الواقع الحسي، ولكن حتى نتوخى الموضوعية نقول أن الرياضيات تنزع إلى
التجريد أكثر، ولعل هذا ما جعلها دقيقة و صارمة وكل العلوم في حاجة إليها حتى قال
أحد المفكرين:" إن اللغة الوحيدة التي يجب أن يتكلمها العالم هي الرياضيات."
التعليقات على الموضوع