مقالة جدلية رائع مختصر هل يمكن تفسير الذات عن طريق الوعي ؟
هل يمكن تفسير الذات عن طريق الوعي ؟
يمكن تجد في بعض مواضيع اسئلة مشابهة لها :
"هل معرفة الذات تتوقف على الوعي أم عن طريق الغير"
"هل معرفة الذات تتوقف على الانا ام الغير"
I-المقدمة (طرح
المشكلة): يراد بالذات ذلك الجوهر القائم بذاته، الثابت الذي
لا يتغير على الرغم مما يلحق الجسم من أعراض. هي النفس أو الشخص وكل ما يشير إليه الإنسان
بقوله أنا.
لكن ليس مهما ضبط
المفهوم، إنما الأهم من ذلك هو تحديد السبيل الأمثل لمعرفتها، وهذا ما شكل محور النقاش لدى الكثير من الدارسين، حيث
أكد البعض منهم أن الوعي يسمح بمعرفة الذات لذاتها مادام ملازما للحياة النفسية،
في حين قدم البعض الآخر جملة من الاعتراضات على التفسير بالوعي و أكدوا أن الغير
ليس فقط شرط لوجود الذات، بل هو أيضا النموذج الأمثل لمعرفتها. لذا فهل من صواب
بين الاعتقادين؟ وهل يمكن تفسير ما يحدث على مستوى الحياة النفسية عن طريق الوعي؟
أم أن كل معرفة بالذات تقتضي وجود الغير؟
II-التوسيع (محاولة حل المشكلة):
1 - القضية: ( يمكن تفسير الذات عن طريق الوعي )
شرح وتحليل: يذهب أنصار هذا الطرح للتأكيد أنه يمكن تفسير الذات عن طريق الوعي، انطلاقا
من أنه ارتبط بالتفكير من جهة، و التفكير هو عنوان الوجود الإنساني، و من جهة
ثانية يعد اندفاعا من أعماق النفس ويتميز بالديمومة. أكدوا أن الذات لا تعرف عن
طريق الغير، خاصة وأن الإنسان ليس جاهلا لدرجة عدم القدرة على معرفة أبسط السلوكات
الصادرة عنه
البرهنة: كل ذات تعي ذاتها وتشعر بما يحدث فيها من
انفعالات وما يصدر عنها من سلوكات، لأن الوعي هو التفكير الذي يعد عنوانا للوجود
الانساني، لذلك فإن انطفاء الوعي هو انطفاء للذات وزوالها. هذا ما أكده المفكر الفرنسي
روني ديكارت في مشروع الكوجيتو "أنا أفكر إذن أنا موجود " و من
ذلك فإنه إذا كان الفكر هو الوعي وكان
الإنسان لا ينقطع عن التفكير إلا في لحظة الموت، فإنه لا سبيل لفهم الذات إلا
الوعي مادام الإنسان موجودا.
الذات تعرف نفسها بنفسها، لأنها تصدر أفعالا خاضعة
لمراقبة داخلية دائمة من طرف الضمير الذي يعد مرآة لها، فقد يبدو الفرد مذنبا
بالنسبة للغير، لكن يعيش الارتياح كونه يعلم الصواب، وقد يبدو زعيما بالنسبة
للآخرين، لكنه يعاني وحيدا ،لأنه يعلم قصده ، و لما كانت تلك المراقبة الداخلية
دائمة فإن الذات ليست في حاجة إلى وساطة لمعرفة أحوالها. هذه الرؤية وجدت عند ابن سينا نموذج الفكر الإسلامي ، لأنه
قال "الشعور بالذات لا يتوقف أبدا ".
معرفة الذات تتم بطريقة حدسية، أي من دون وسائط، لأن هنري برغسون
توصل أن الشعور هو اندفاع من أعماق النفس ويتميز بالديمومة، و من ذلك فإنه يحيط
بكل ما يحدث على مستوى الحياة النفسية. هذه الرؤية وجدت أيضا عند إدموند هوسرل
، لأنه اعتبر الشعور عنان الوجود الإنساني و هو ما يتجلى من خلال قوله:"أنا
أشعر إذن أنا وجود." فالفرد ليس في حاجة إلى أي كان من أجل أن يفسر أحواله، و
كأن هذا يثبت ما طرحه سقراط قديما، لأنه قال:" أعرف نفسك بنفسك،
النقد: الوعي قد
يوهمنا بأننا على صواب رغم أننا على خطأ ، فهو مصدر لخداع الذات . الحياة النفسية
تنقسم إلى جانب شعوري وآخر لا شعوري، وحتى إن تمكن الفرد من تفسير سلوكاته
الواعية، فإنه يستحيل عليه فهم حقيقة تلك الأفعال التي تصدر دون وعي منه.
2- نقيض القضية : ( لا يمكن تفسير الذات عن طريق الوعي )
شرح و تحليل : يذهب أنصار هذا
الطرح للتأكيد على فكرة أساسية مضمونها أنه لا يمكن أو يستحيل تفسير الذات عن طريق
الوعي انطلاقا من أنها أوسع من أن تنحصر في تفسير ميتافيزيقي سطحي يقدمه الوعي، و
أوسع من أن ننظر إليها من جانب واحد . بل تقتضي دوما وجود الغير مادام الإنسان قد
وجدفي علاقة دائمة مع الآخرين.
البرهنة: معرفة الذات لا تتم عن طريق الوعي، لأن الشعور قد يكون
مجرد تأمل ميتافيزيقي واستنباط ذاتي فيعبر عن أوهام ضمنية . فالشعور مجرد وهم وهو
بذالك لا يعبر عن حقيقة الذات . هذا ما أكده سبينوزا من خلال قوله "
إن البشر يعتقدون أنهم أحرارا لجهلهم الأسباب التي تدفعهم إلى الفعل، فيعتقد الطفل
الخائف اعتقادا خاطئا، أنه حر في الهروب، نفس الاعتقاد نجده عند الحجر لو كان له
شعور، أي أنه حر في السقوط. " الوعي لا يكفي لمعرفة الذات، لأن الدراسات
الحديثة في علم النفس أثبتت وجود مساحات في الذات المظلمة لا يستطيع الوعي أن يصل
إلى فهمها، بل يفهمها الغير المتمثل في المحلل النفسي. هذه الرؤية وجدت عند
سيغموند فرويد حيث توصل أن اللاوعي يمثل مجمل الحياة النفسي، ومن ذلك فإن الاعتماد على الشعور سوف يجعل الجزء
الأعظم من الذات مجهولا. معرفة الذات
تقتضي التواصل مع الغير، لأن الإنسان مرغم على التعامل مع الآخرين خاصة وأن الواقع
قد أثبت أن اثنان لا يتعلمان هما المستحيي والمتكبر، لأن الأول يتحاشى التواصل مع
الغير والثاني يتجاهله. الواقع أثبت أن المفكر الفرنسي جون بول سارتر كان
يرى يوما في الغير أنه الجحيم، لكن غير موقفه بعد تعرفه على المفكرة الفرنسية سيمون
دي بوفوار فأصبح يقتنع أنه توجد علاقة بين الأنا والآخر، والآخر هو إنسان أيضا
، يمكن أن يساهم في معرفة الأنا و يمكن أن يساهم الأنا في معرفة الغير لذاته ، لذا
قال جون بول سارتر:" وجود الآخر شرط لوجودي وشرط لمعرفتي لنفسي، وهكذا
يصبح اكتشافي لدواخلي اكتشافا للآخر " ثم قال :" إنني في حاجة إلى وساطة
الغير لكي أكون ما أنا عليه." كما قال أيضا:" التواصل مع الغير يسمح
بمعرفة الذات، لأن المعرفة هي اقتلاع من الذات للوصول إلى هناك خارج الذات ، نحو
ما ليس أنا ... هناك قرب الشجرة ."
الغير شرط لابد منه لمعرفة الذات، لأن الإنسان مدني
بطبعه، فهو يميل إلى الجماعة والتواصل معها بالفطرة. هو مدين للمجتمع بكل
المكتسبات والمبادئ التي يمتلكها، كونه قد وجد في هذا الوجود جاهلا لما يحيط به،
ثم منحه الغير كل ما يريد. لذا فهو ملزم باعتماد التواصل من أجل امتلاك معرفة أوسع
عن أناه وعن غيره. التواصل الحقيقي يتمثل
في التعاطف والتعلق بالغير وهذا ما يمنح الذات وعيا تاما بقيمتها، وهو ما أكد
المفكر الفرنسي موريس ميرلو بونتي حيث أشار أن الغير لا يمكن نبذه أو
إقصاؤه، إنما ينبغي احترامه والتواصل معه. والتواصل يتم لما يتخلى كل طرف عن أناه
لصالح الإنسانية وينظر إلى الآخر نظرة قبول وتفهم .
النقد : الإنسان ليس جاهلا لدرجة أنه لا يعي من يكون. من المستحيل ألا تكون له
أبسط صورة عن ذاته. إن التواصل مع الأخر لا يسمح بمعرفة الذات، بل يعد منطلقا
لتجاهلها لصالح الغير. بل كل فرد يمتلك أسرارا ونوايا من المستحيل أن يعلمها
الآخر، وحتى إن تعرف عليها، فإن ذلك لا يعد فعالا، بل تدخلا في خصوصية الذات . كل
هذا يعني أنه للقضية تفسيرا آخر.
3- التركيب:
وكتوفيق بين الطرحين يمكن التأكيد أنه لا يمكن حصر معرفة
الذات فقط في الوعي، لأنه تصدر عن الإنسان جملة من الاستجابات اللاواعية التي يجهل
معناها، كما لا يمكن تجاهل قيمة الوعي،
لأن في ذلك تجاهل لقيمة الإنسان ككائن عاقل . بل الحقيقة أن الإنسان يتعرف على من
يكون من خلال اعتماده على نفسه، إضافة إلى التواصل مع الآخر في حدود ، المقارنة
بين سلوكاته وسلوكات الغير إلى جانب استثمار تناقضات الوجود والاختلافات الموجودة
بينه وبين الآخرين. فقد يتمكن من فهم بعض أحواله، لكن يحتاج إلى انتقادات وتوجيهات
الآخرين من أجل تحقيق فهم أوسع لذاته.
III - الخاتمة:(حل المشكلة) ختام القول يمكن التأكيد أن معرفة الذات لا تتأسس على
الوعي فقط، بل تقتضي أيضا التواصل مع الغير، لأنه ليس بإمكان الإنسان أن يعيش
منعزلا عن الآخر، ومن ذلك فإنه ملزم باستثمار مدنيته من أجل تحقيق فهم أوسع لنفسه،
ملزم بتقبل توجيهات وانتقادات المقربين منه ، ملزم برسم دائرة لنفسه في مقابل رسم
دوائر الغير والبحث عن التواصل مع الآخر في ظل الحذر من طمس شعوره.
شكرن
ردحذفجزاكم الله خيرا
ردحذف