هل القيمة الخلقية ثابتة أم متغيرة ؟
هل القيمة الخلقية ثابتة أم متغيرة ؟
I/-المقدمة(طرح المشكلة): إن القيمة
الخلقية هي المعيار الذي يتم بموجبه الحكم على
الأفعال و تصنيفها وفق ثنائية الخير والشر , فالخير كفكرة هو المحمود و
الشر هو المذموم أو المستهجن , لكن المشكل ليس في ضبط المفهوم بل في طبيعة القيمة الخلقية و هو ما شكل محور نقاش
الكثير من الدارسين حيث نجد منهم من أكد أنها مطلقة ثابتة لا تتأثر بتغيرات المكان
و الزمان مادامت مبادئ , في حين أكد البعض الآخر أنها معاملات يفرض عليها الواقع
ان تكون متغيرة انطلاقا من ان منفعة الفرد
متغيرة و قوانين المجتمع قابلة للتجديد . لذا هل من صواب بين الطرحين و هل الخير
هو دوما كذلك أم انه يمكن أن يتغير ؟ بل هل القيمة الخلقية مطلقة ثابتة أم أنها
نسبية متغيرة ؟ هل الأخلاق مبادئ أم معاملات ؟
II/-التوسيع(محاولة
حل المشكلة)
القضية: (القيمة الخلقية ثابتة ,مطلقة , الأخلاق مبادئ).
تحليلها: إن القيمة الخلقية مطلقة لا تتأثر بتغير المكان أو الزمان مادامت مبادئ
يصنعها العقل انطلاقا من حكمه على حقيقة الأفعال التي تحمل في ذاتها صفة الخير أو
الشر , و هذا الحكم يبقى ثابتا لأن العقل هو أعدل قسمة بين الناس . الخير هو دوما
يعد خيرا و الشر هو دوما كذلك لأن الخير هو ما أمر الله به و الشر هو ما نهى عنه .
البرهنة 1- عبر أفلاطون عن مطلقية القيمة الخلقية من خلال
قوله ( إن الإله مقياس الأشياء جميعا ) إن الروح حسب أفلاطون وجدت أولا في
عالم المثل فامتلكت الحقيقة المطلقة ( الخير المطلق) و بعدما هبطت إلى عالم
المحسوسات وحلت في الجسد عند الولادة
فإنها قد نسيت كل ما عاشته يوما , فالخير هو فعل اسمي مستقر في عالم المثل و منزه
عن عالم المادة . الخير يدرك بالعقل عن طريق تذكر الروح لما عاشته يوما . يقول أفلاطون
( الخير فوق الوجود قوة و شرفا ) هذا الخير يمكن إدراكه عند إخضاع الميول و
الرغبات لحكم العقل .
2- أكد إيمانويل كانط في كتابه أسس
ميتافيزيقا الأخلاق أن الفعل الخلقي فعل نقي كأنما هبط من السماء ذاتها . القيمة
الخلقية تكمن في مبادئ الفعل لا في النتائج و ما دامت المبادئ ثابتة فإن الخير لا
يمكن أن يصبح شرا . لان الفعل يحمل في ذاته صفة الخير أو صفة الشر والعقل هو
الوحيد القادر على معرفة هذه الصفة نظرا لامتلاكه مبادئ فطرية ثابتة .
إن أخلاق كانط تسمى بأخلاق
الواجب لأنها مرتبطة بالإرادة الخيرة و الأوامر
التي يصدرها العقل ( أوامر شرطية , و أخرى قطعية ) هذا ما يجعلها أخلاقا مطلقة لأنها
منزهة عن أية منفعة . في ذلك يقول ( إن
الذي يمتنع عن السرقة لأن واجبه يفضي عليه بالامتناع ولأن عقله يبين له قبح السرقة هذا وحده يتصرف
طبقا للواجب الأخلاقي . )
3 – أكد الأشاعرة في الإسلام أن الخير
هو ما أمر الله به و الشر هو ما نهى عنه (
الخير و الشر شرعيان ) . رغم أن هذه الرؤية تؤكد أسبقية النقل عن العقل إلا أنها
تتفق مع أنصار النزعة العقلية في القول أن القيمة الخلقية ثابتة . أكد المعتزلة أن الدين جاء مخبرا لحكم العقل ,
توصل العقل أن السرقة فعل يحمل في ذاته
صفة الشر و اثبت ذلك الدين .
5 –
إن الدين الإسلامي جاء من أجل إتمام مكارم الأخلاق , هذا ما يتجلى من خلال قوله
تعالى " و لتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر , أولئك هم المفلحون " قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
6 – إن الإسلام جاء للتمييز بين الحق و
الباطل و الدعوة إلى الخير و الفضيلة. كل هذا من أجل أن ينال الإنسان سعادة لا
تتغير بتغير الزمان و المكان . هذا ما أكده ابن حزم الاندلسي من خلال فوله
." من أراد خير الآخرة و حكمة الدنيا و عدل السيرة و الاحتواء على المحاسن
كلها و استحقاق الفضائل بأسرها , فليقتضي بحياة محمد صلى الله عليه و سلم "
النقد : لا يمكن أن تكون القيمة
الخلقية ثابتة لأن أنانية الفرد تتجاهل حكم العقل أو الدين و تستجيب لنداء الغريزة
هذا ما ينفي الثبات و يثبت التغير في القيمة الخلقية . إن تعاليم الدين أو العقل
لا تعبر عن كل القيم الأخلاقية نظرا لتعدد الاعتقادات الدينية من جهة و تعامل الإنسان
مع ما هو كائن ( الواقع المتغير) من جهة ثانية .
نقيض القضية : (القيمة الخلقية
متغيرة , نسبية , الأخلاق معاملات )
شرح و تحليل : إن
القيمة الخلقية نسبية تتغير بتغير المكان و الزمان و النسبية تسمح للأفراد أن يتبنوها كما يتبنوا
الثقافة و المعرفة (الأخلاق معاملات ). نسبية القيمة الخلقية تتماشى مع طبيعة الإنسان
التي تبحث عن اللذة و تنفر من الألم . نسبية الأخلاق تتماشى مع قوانين المجتمع مما
يجعلها قابلة للتطور .
البرهنة : 1 – أكد إيميل دوركايم أن
نسبية الأخلاق ناتجة عن تنوع المجتمعات لأن
الإنسان يرى بعين الجماعة و المجتمع ليس
سلطة أخلاقية فحسب , بل هو النموذج و المصدر لكل قيمة أخلاقية . لذا ينبغي أن تكون
أخلاق الفرد هي نفسها التي يطلبها المجتمع . في
ذلك يقول ايميل دوركايم ˝ إذا تكلم الضمير فينا فإنما المجتمع هو الذي
يتكلم فينا و إذا استنكر احدنا الفاحشة فلأن المجتمع هو الذي استنكرها ˝
2 – لا نستطيع أن نفاضل بين الخير و الشر إلا باعتماد أفكار
المجتمع . و هو ما أشار إليه ليفي برول من خلال قوله ˝إن الأخلاق هي
ظاهرة اجتماعية لها قوانينها و ليست سوى مظهر للجماعة لأنها تابعة لمعتقداتها ,
علومها و فنونها , ومن ذلك فإنه لا توجد أخلاق بل توجد عادات أخلاقية ˝
3 – إن فكرة الخير
قد تتغير بتغير المكان و الزمان
ومركز الفرد في المجتمع , حيث اثبت
الواقع أن مبادئ الاقتصاد الرأسمالي جعلت
الطبقة العاملة (البروليتاريا ) ترى الخير في تقليص ساعات العمل و الزيادة في الأجر
. لكن هذا شر من منظور الطبقة المالكة . كما أن مصطلح الجهاد في مرحلة الفتوحات الإسلامية
كان يعد خيرا لغاية إعلاء كلمة الله , لكن أصبح
الإنسان الأمريكي المعاصر ينظر
إليه أنه الخروج عن القانون الدولي .
4 – أكد النفعيون أن الخير يكمن في تعدد اللذات لأن اللذة هي صوت الطبيعة و هي
الخير الأعظم و مقياس الأشياء جميعا , بل
هي الغاية الوحيدة للحياة . هذا الطرح عبر عنه
أرستيب القورينائي و كذلك أبيقور
حيث أكد هذا الأخير أن الإنسان يميل بطبعه إلى تحقيق اللذة وينفر من الألم . إذا
ارتبطت الأخلاق باللذات و كانت رغبات الأفراد متباينة و متغيرة فإن ذلك يمنع من وجود
خير مطلق .
5 -
يعد جريمي بينتام من رواد مذهب المنفعة و قد نظر إلى الأخلاق نظرة
تجريبية حيث اعتبر الطبيعة البشرية أنها
مصدر السلوك لأن الإنسان بطبعه يبحث عن المنفعة و يبتعد عن المضرة وبالتالي
فإن ما يحقق نفعا فهو خير و ما لا يحقق ذلك فهو شر . و من ذلك فانه إذا كان الواقع
متغير و كانت منافع الإنسان متزايدة فإنه من المستحيل أن تكون أخلاق الفرد مطلقة .
6 – أكد جون ستوارت مل أن قاعدة
السلوك الأخلاقي هي بالضرورة أن نفعل من أجل الآخرين ما نحب أن يفعلونه من أجلنا
لكن ما نريده اليوم ليس هو ما كنا نريده بالأمس و ليس ما نريده غدا .
النقد : على الرغم من أهمية هذا الطرح إلا أنه لا يمكن الأخذ به
فإنكار مطلقيه الأخلاق هو إنكار لمبادئ العقل و القيم الإيمانية و بالتالي الوقوع في عبودية الذات و قوانين المجتمع الإلزامية
. إن التخلي عن المبادئ هو تمهيد لزوال
الأخلاق و التنازل إلى مرتبة الحيوانية (
الصراع ) التركيب : إن الأخلاق ثابتة و متغيرة في آن واحد , ثابتة في
مبادئها متغيرة في تطبيقاتها , هذا يعني أن الخير كمفهوم يبقى ثابتا مطلقا لا
يتغير بتغير معطيات المكان و الزمان لكن وسيلة تحقيقه تتغير بتغير الظروف . كل إنسان
يمتلك مبادئ ثابتة تتمثل في إرادة فعل الخير و احترام الغير لكن قد يجد صعوبة في
تطبيق هذه المبادئ فيكتفي بالمبادئ كأفكار فقط و يطبق الأخلاق حسب المصلحة التي
يؤسسها المجتمع .
الخاتمة . ختام القول يمكن التأكيد أن القيمة الخلقية كمبادئ هي
مطلقة بينما التطبيق الواقعي يجعلها نسبية . مطلقة ثابتة إذا كانت خاضعة للعقل أو الدين , نسبية متغيرة إذا كانت معاملات مقيدة بالمنفعة أو
المجتمع .
مقال مشابهة :
التعليقات على الموضوع